ملاحقة قادة الجيش الجزائري... مكافحة الفساد أم تصفية حساب؟

18 سبتمبر 2018
الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة وحليفه قائد الجيش أحمد قايد صالح(Getty)
+ الخط -

تُثير الإجراءات المتلاحقة بحق قادة كبار في الجيش الجزائري كثيراً من الجدل، ولا سيما بعدما قرّر قاضٍ في المحكمة العسكرية في مدينة البليدة قرب العاصمة الجزائرية، يوم السبت الماضي، منع سفر خمسة من ضباط الجيش تمّت إقالتهم من مناصبهم قبل أسبوعين، وتجريدهم من جوازات سفرهم حتى إنهاء تحقيقات في حقّهم في قضية تملّك غير مشروع واستغلال النفوذ واستعمال السلطة. وهؤلاء الضباط هم القائد السابق للناحية العسكرية الثانية، سعيد باي، والقائد السابق للناحية العسكرية الرابعة، عبد الرزاق شريف، والقائد السابق للناحية العسكرية الأولى، اللواء الحبيب شنتوف، ومدير الشؤون المالية في وزارة الدفاع الوطني، بوجمعة بودواو، والقائد السابق للدرك الوطني، اللواء مناد نوبة، الذي أقيل من منصبه في 29 يونيو/ حزيران الماضي.

ويأتي ذلك بالتزامن مع قرارات مثيرة في الإطار ذاته، اتخذها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، أمس الإثنين، عبر إقالته عدداً من كبار قادة الجيش، أبرزهم قائد القوات البرية، اللواء أحسن طافر، وقائد القوات الجوية اللواء عبد القادر لوناس. وعيّن بوتفليقة، بحكم صلاحياته الدستورية كوزيرٍ للدفاع وقائد أعلى للقوات المسلحة، اللواء سعيد شنقريحة مكان طافر الذي أحاله إلى التقاعد، في حين عيّن اللواء بومعيزة حميد مكان لوناس الذي أحاله للتقاعد أيضاً.

كذلك، شملت التغييرات التي أحدثها بوتفليقة قيادات عسكرية تعمل في مهام وظيفية في مقرّ وزارة الدفاع وملحقاتها، إذ أقال الأمين العام لوزارة الدفاع، اللواء محمد زناخري، وعيّن خلفاً له غريس عبد الحميد، كما أنهى مهام العميد بوشنتوف رميل، الذي يشغل منصب مدير صندوق الضمان الاجتماعي العسكري. وعيّن بوتفليقة العميد علي عكروم قائداً لجهاز الإمداد، واللواء تيبودلات محمد مديراً عاماً للعتاد في وزارة الدفاع الوطني.

وقبل ذلك كان بوتفليقة قد أقال قائد جهاز الأمن العام، اللواء عبد الغني هامل، وقائد جهاز الاستخبارات التابعة للشرطة نور الدين راشدي.

وإلى جانب سلسلة الإقالات المثيرة هذه التي شملت أبرز قيادات الصف الأول في الجيش، تُثير قضية حظر سفر خمسة من كبار القادة الذين تمّت إقالتهم من مناصبهم وسحب جوازات سفرهم، جدلاً، خصوصاً على خلفية التهم الموجهة إليهم والمتعلقة بـ"الفساد المالي والتملّك غير المشروع"، وبحكم مناصبهم الحساسة التي كانوا يشغلونها.

لكنّ بعض التحليلات لا تتماهى مع الرواية الرسمية المسرّبة التي تقول إنّ الإجراءات المتخذة بحقّ هؤلاء تأتي على خلفية قضايا فساد، خصوصاً أنّ أغلب العسكريين الملاحقين قضوا أكثر من 10 سنوات في مناصبهم من دون أن تثار حولهم شبهات فساد. وهو ما يبقي التفسيرات محصورة بين صحوة مفاجئة لآليات الرقابة على المال العام، وبين تصفية حسابات سياسية وصراع بين جهات في السلطة والجيش.

وما يثير التساؤل بشأن القضية وملابساتها الجزائية والسياسية هي التصريحات المتناقضة لقائد أركان الجيش الجزائري، الفريق أحمد قايد صالح، الذي قال أخيراً إنّ التغييرات التي تمّت "طبيعية، وتدخل في إطار سنّة التداول على المناصب وترقية الكفاءات". لكنه عاد يوم الأحد الماضي ليقول إنّ "القيادة المسؤولة، والكلام موجّه للجميع، هي فنّ الاستفادة من التجارب المكتسبة، وفنّ الاستغلال والاستعمال العقلاني والأمثل للقدرات البشرية والمادية والاستعلامية المتوفرة، حتى لا يصبح الشروع في أيّ عمل من الأعمال شكلاً من أشكال المغامرة غير محسوبة العواقب والنتائج". وأضاف قايد صالح أنّ "الإنسان المسؤول في أي موقع كان، ومهما كان مستوى المسؤولية التي يتحمّل وزرها، يتعيّن عليه أن يتحمّل نتائج أعماله بالتمام والكمال".

وتُعيد قضية الفساد المتعلّقة بالقادة السابقين للجيش، التي تحمل أبعاداً سياسيةً، إلى الأذهان قضايا مماثلة. ففي عام 1992، وُجّهت تهم بالفساد إلى الجنرال في الجيش، مصطفى بن لوصيف، إذ أدين بالسجن في قضية فساد مالي. لكنّ تفاصيل أخرى عن القضية اتضحت عقب ذلك بفترة طويلة، وأظهرت أنّ القضية كانت تتعلّق بتصفية حسابات سياسية بين قيادات في الجيش حينها.

وفي الجزائر التي تغيب فيها آليات واضحة لمراقبة المال العام ومكافحة الفساد، يلفّ الغموض الحملات الظرفية والقضايا المتّصلة بمحاربة الفساد التي تستهدف شخصيات هي في الغالب على موقف نقيض من السلطة أو جناح فيها.

وفي السياق، يعتقد مراقبون أنّ قرار السلطة ملاحقة العسكريين وقادة الجيش السابقين "لا يستهدف إدانتهم بالضرورة، لكنه يستهدف شلّ حركتهم ومنعهم من التدخّل أو إبداء مواقف في المرحلة الحالية، التي تتوجّه فيها الجزائر نحو تغيير داخل السلطة، وعشية بدء ترتيبات الاستحقاقات الرئاسية المقبلة المقرّرة في ربيع العام المقبل".

وفي هذا الإطار، يعتبر الناشط والمحلّل السياسي، نبيل سوامي، أنّ "طبيعة النظام السياسي في الجزائر تفرض أن يكون لكل مرحلة رجالها وضحاياها أيضاً"، موضحاً في حديث مع "العربي الجديد" أنّ "ذلك حدث مع كل تغيير مفصلي في تاريخ الجزائر. حدث في عهد الرئيس هواري بومدين والرئيس الشاذلي بن جديد وغيرهما، وأعتقد أنّ ما يحدث يدخل في السياق نفسه". ويتابع سوامي أنّ "السلطة تدرك أنّ جنرالات الجيش أكثر تأثيراً وهم خارج الخدمة، من وجودهم داخل الجيش، حيث يتحررون من واجب التحفّظ، ولدى كل منهم لوبي وشبكة علاقات ممتدة في كل المؤسسات، ولديهم المال القذر الذي يمكن توظيفه".

لكنّ احتمال وجود خلفيات سياسية في القضايا الأخيرة، على علاقة برفض العسكريين سياسات بوتفليقة، أو وجود خلافات بينهم وبين حليفه الرئيس، قائد الجيش أحمد قايد صالح، لا يمنع احتمال وجود قضايا جديّة متعلّقة بالفساد وتتّصل بكبار قيادات المؤسسة العسكرية.

وفي هذا السياق، يعتبر الباحث في الشؤون السياسية، محمد هناد، أنّ "وضع جنرالات الجيش هو رهن التحقيقات، ومنعهم من السفر يؤكّد مرة أخرى أنّ سبب انتشار الفساد في الجزائر هم عناصر في القيادة العسكرية ممن يتصرّفون كما الأباطرة".

ولعقود، ظلّت المؤسسة العسكرية في الجزائر خارج مجال الرقابة، خصوصاً على الصعيد المالي. كذلك ظلّت قيادات الجيش خارج الرقابة أيضاً، بفعل هيمنة المؤسسة العسكرية على مجمل مفاصل الحياة والإدارات والقضاء عبر جهاز الاستخبارات. وسمحت هذه الظروف بإبقاء موازنة الجيش مثلاً خارج أي نقاش في البرلمان، أسوةً بباقي موازنات الوزارات الأخرى التي تجرى مناقشتها عند مناقشة قانون الموازنة. كذلك، أتاح هذا الوضع في فترة لاحقة تطوّر تحالف بين الكارتل المالي وجنرالات الجيش، بصورة مكشوفة.

إلى ذلك، يعتقد المحامي المهتمّ بقضايا الفساد، صالح دبوز، أنه "لا يجب التغاضي عن أنّ سيطرة الجيش على سلطة القرار وفّرت مساحات كبيرة للفساد لقادة الجيش في مختلف المجالات". ويقول دبوز، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "هناك تقاطعاً بين الفساد وتسيير شؤون الدولة والجيش، بسبب العيوب الهيكلية للنظام السياسي القائم على الضبابية، وإخفاء المعلومات، وجمع السلطات كلها بيد جهة واحدة هي السلطة التنفيذية نظرياً، وتسييرها الشأن العام بطريق المحاباة"، مشيراً إلى غياب "أيّ توازن في مؤسسات الدولة، وخصوصاً في ظلّ غياب المؤسسة القضائية، وغياب معارضة سياسية فاعلة بسبب غلق مجال الحريات، وكذلك غياب السلطة المضادة التي ينشّطها مجتمع مدني حقيقي، كجمعيات ونقابات وحتى أحزاب متجذّرة وبعيدة عن دواليب السلطة".

ويذهب دبوز إلى أبعد من ذلك، عندما يربط بين الملاحقات القضائية لقادة الجيش السابقين، واشتراطات أجنبية في حال كانت قضايا هؤلاء على علاقة بمشكلات داخلية لها تأثير خارجي. ويقول: "مثل هذه القضايا تجعل البلد عرضة لأزمات كبيرة جداً، وتؤدي إلى خروج تلك الأزمات من النطاق الوطني إلى النطاق الدولي، وهو أمر وارد جداً، كون الدولة الجزائرية أصبحت عاجزة عن معالجة تلك السلبيات". بالنسبة إليه فإنه "هنا يكمن الخطر. عندما تصبح تصرّفات بعض الجزائريين تسبب حرجاً لبلدان أخرى، وبذلك يعطيها الحقّ للتدخّل في شؤون البلد، لتجعل السلطة بذلك سيادة البلد عرضةً للمساس بسبب التهاون وعدم الجدية".

وتستدعي محاكمة الضباط في الجيش ترتيبات قانونية خاصة، بسبب الرتب العسكرية التي يحملونها. وعن هذا الأمر يقول الخبير القانوني، عمار خبابة، رداً على استفسار لـ"العربي الجديد" حول آليات المحاكمة، إنّ "القانون الجنائي العسكري يساوي بينهم وبين باقي الضباط، يشترط فقط في تشكيلة المحكمة أن يكون من بين قضاتها المساعدين قاضٍ على الأقل لديه المستوى نفسه أو أعلى من الضباط الملاحقين".

المساهمون