مفاوضات سد النهضة: بحث عن آلية لإدارة سنوات الجفاف

11 ديسمبر 2019
تسعى مصر للخروج بأقل الخسائر في المفاوضات(خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -



في ما بدا اقتراباً من التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن النقاط الخلافية حول الملء الأول لخزان سد النهضة الإثيوبي، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية، راعية المناقشات الفنية والسياسية الجارية بين مصر والسودان وإثيوبيا، عن إحراز تقدّم على صعيد المفاوضات الفنية، واتفاق وزراء خارجية الدول الثلاث عقب الاجتماعات التي عقدوها أمس الأول مع وزراء المياه والري بالدول الثلاث ووزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين ورئيس البنك الدولي ديفيد مالباس، على أن الاتجاه الاستراتيجي للاجتماعين التقنيين المقبلين يجب أن يتمحور حول تطوير قواعد وإرشادات تقنية لملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي، وتحديد ظروف الجفاف، وتدابير تخفيف آثاره التي يتعين اتخاذها.

وفي انعكاس لتطور المناقشات الفنية لمستويات لم يسبق التوصل إليها في المفاوضات السابقة، أكد الوزراء في بيان مشترك أنهم "يدركون أن هناك فوائد كبيرة لجميع البلدان الثلاثة في وضع قواعد ومبادئ توجيهية لمعالجة ظروف الجفاف، ستشمل القواعد والمبادئ التوجيهية تدابير تخفيف الجفاف بناءً على التدفق الطبيعي في سنة معينة ومعدلات إطلاق المياه من السد، وأن إثيوبيا هي التي ستطبق هذه القواعد والمبادئ التوجيهية التقنية لملء وتشغيل السد، ويمكن تعديلها من قبل الدول الثلاث، وفقاً للظروف الهيدرولوجية (علم المياه) في سنة معينة".

مصادر مطلعة على ملف القضية في وزارة الموارد المائية والري المصرية أكدت لـ"العربي الجديد" بعد ساعات من إصدار البيان، أن صيغته تعكس إدخال إثيوبيا والسودان تعديلات في آلية التطبيق على المقترح المصري الذي سبق أن نشرت "العربي الجديد" تفاصيله في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وهو الذي يرتكز على تقدير حجم فيضان النيل الأزرق خلال سنوات الملء الأول، مما يعني تخلي مصر عن تمسكها القديم باتفاقيات النيل التي لم تكن إثيوبيا طرفاً فيها، فضلاً عن تخليها أيضاً عن مقترحها السابق بضمان تدفق ما لا يقل عن 40 مليار متر مكعب سنوياً، والاعتماد على هيدرولوجيا النيل الأزرق، مما سيفتح الباب لاستفادة مصر من بواقي الفيضان، وذلك بعد استفادة إثيوبيا من المياه المطلوبة لملء الخزان الرئيسي للسد، مع الابتعاد تماماً عن فكرة "المدة القطعية لزمن الملء الأول للخزان"، واتباع آلية مشتركة لتحديد الكميات المحجوزة وفقاً لسنوات الجفاف والفيضان.

وأوضحت المصادر أن مصر كانت تطالب بأن يتم تحديد كميات المياه المحجوزة والكميات المسموح بمرورها من السد، عاماً بعام، من خلال آلية رقمية وكمية يتم تطبيقها استناداً إلى حجم الفيضان السنوي للنيل الأزرق الذي سيتم تسجيله بناء على الأرقام الإثيوبية والسودانية، وليس بناء على أرقام السد العالي. لكن المستجد الذي تسير المفاوضات في اتجاهه، هو أن تكون هناك خطة زمنية واضحة لملء السد على أن يتم تطبيقها بصورة طبيعية في سنوات الفيضان، وأن تتفق الدول الثلاث على آلية معينة يتم اتّباعها في سنوات الجفاف، وتكون إثيوبيا هي الدولة المنوط بها تنفيذ هذه الآلية، مع إعطاء الفرصة لكل من مصر والسودان للتدخل في سنوات الجفاف لإدخال تعديلات على هذه الآلية بناء على اتفاق مشترك.



ووصفت المصادر هذا الاتجاه الجديد للمفاوضات بأنه "إيجابي جزئياً" لأنه يحقق رغبة مصر الحالية في تأمين مستوى المياه في السد العالي، بناء على حجم فيضان النيل الأزرق، خصوصاً في سنوات الجفاف، مقابل ضمان سيادة إثيوبيا على السد، وهي نقطة محورية كانت تقف عائقاً أمام المقترحات المصرية السابقة.

وأضافت المصادر أن الاجتماعين الفنيين المقبلين في الخرطوم وأديس أبابا قبل اجتماع واشنطن النهائي المقرر عقده في 13 يناير/ كانون الثاني المقبل، سيخصصان لبحث موضوعين رئيسيين. الأول هو وضع خريطة زمنية معقولة بناء على حجم فيضان النيل الأزرق المتوقع في السنوات المقبلة، وهو أمر سيستغرق نقاشاً طويلاً بين مصر التي كانت ترغب في ألا تقل عدد سنوات الملء الأول عن سبع سنوات، وإثيوبيا التي كانت ترغب في تحديدها بثلاث فقط، والسودان الذي يقترح خمس سنوات، أخذاً في الاعتبار أن المقترح المصري الجديد لا يتمسك بعدد معين لسنوات الملء، ولكن التطوير الطارئ على المقترح وفقاً لمخرجات المفاوضات يلزم الجميع بتحديد خطة زمنية، ولو مبدئية، وعلى الأقل موعد لبداية الملء الفعلي على ضوء بيانات الفيضان.

أما الموضوع الثاني الذي سيتم بحثه في الاجتماعين المقبلين، فهو كيفية وضع الآلية البديلة في حالة الجفاف، والمبادئ التوجيهية والقواعد التي يجب أن توضع بعناية وحسم لتحكم إدارة الإثيوبيين للسد، وتحديد دواعي تدخل مصر والسودان وكيفية التواصل بين الدول الثلاث في هذه الحالة. ويبدو أن سير المفاوضات يحتم أن يكون للسودان دور أكبر في إدارة وتوجيه الاجتماع المقبل المقرر عقده في الخرطوم يومي 21 و 22 من الشهر الحالي، إذ سبق أن كشفت مصادر مصرية من وزارتي الخارجية والري أن السودانيين اعتبروا أن تعليق المقترح المصري على حجم تدفق المياه ثم اتخاذ القرار بصفة مشتركة، من شأنه عدم ضبط الأمور بصورة حاسمة وترحيل الخلافات إلى المستقبل، ولذلك طلبوا إعادة صياغة المقترح بصورة أكثر تماسكاً لتقديمه في الاجتماع المقبل مع توضيح الرؤية المصرية لتطوير تطبيق هذا المقترح في التشغيل المستمر للسد بعد الملء الأول للخزان، وكيفية قياس تدفق المياه واحتسابها، فضلاً عن مطالبتها إثيوبيا بأن تحدد بشكل واضح موعد البدء في التخزين.

وتعكس هذه التطورات بصورة واضحة انتهاء عصر استحواذ المصريين على النسبة الكبرى من مياه النيل، والإلغاء الضمني لكل الاتفاقيات التي كانت مصر والسودان تتمسكان بها سابقاً، وذلك بعد البناء على إعلان المبادئ الذي وقّعه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي والرئيس السوداني المخلوع عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايله
ميريام ديسالين في الخرطوم في مارس/آذار 2015 الذي أصبح سد النهضة بموجبه أمراً واقعاً لا تستطيع مصر إلا المضي قدماً في التعامل معه وبالشروط الإثيوبية، وتراجع طموحها فقط إلى حد الخروج بأقل الخسائر الممكنة، وهو الهدف الذي يحكم المفاوضات القائمة حالياً برعاية أميركية. كما تعكس الصورة التي تخرج بها البيانات من اجتماعات واشنطن رغبة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في دعم الحكومتين المصرية والإثيوبية في مواجهة التشكيك المحلي في البلدين بشأن الفوائد المترتبة على الاتفاق، وتصوير الأمر وكأن الرعاية الأميركية تضمن تحقيق المكاسب للجميع.

وعلى الرغم من أن البيان الرسمي الصادر عن اجتماع واشنطن تحدث عن تقدّم وأبرز نقاطاً فنية واضحة للنقاش للمرة الأولى، امتنعت مصر رسمياً عن إعلان إحراز تقدًم، مفضلة التريث لحين الانتهاء من الاجتماعات الفنية، إذ اكتفى وزيرا الخارجية والري المصريان بإصدار بيان لم يحمل جديداً، اكتفيا فيه بتأكيد "أهمية انخراط الدول الثلاث في المفاوضات بحسن نيّة وشفافية من أجل تحقيق المصالح المشتركة للدول الثلاث وضمان التنفيذ الكامل لأحكام اتفاق إعلان المبادئ، وبما يحقق أهداف إثيوبيا في توليد الكهرباء من دون الإضرار بمصالح مصر المائية".

وكانت مصر اقترحت سابقاً تحديد كميات التدفق والتخزين بالنسبة لقياس منسوب المياه في بحيرة ناصر، بينما كانت إثيوبيا متمسكة بالحفاظ على منسوب المياه في بحيرة ناصر عند 165 أو 170 متراً قد يؤدي إلى حرمان مصر من إمكانية الملء لأشهر عدة، نظراً لتدني مستوى الفيضان في بعض الأحيان إلى أقل من 30 مليار متر مكعب، وبالتالي ترى أن المحددات لا يمكن أن تقاس بأي مؤشر في دولة المصب. ومن المقرر الوصول إلى اتفاق بتحديد قواعد ملء وتشغيل السد بحلول منتصف يناير المقبل، أما في حالة الفشل فإن مصر نجحت في تمرير اتفاق على تطبيق المادة 10 من إعلان المبادئ، التي تنص على أن يتم الاتفاق بين الدول الثلاث على تسوية النزاعات الناشئة عن خلاف في تفسير أو تنفيذ الاتفاقية، ودياً، من خلال استدعاء طرف رابع للتوفيق أو الوساطة، أو إحالة المسألة للنظر فيها من قبل رؤساء الدول أو رؤساء الحكومات.