فرنسا تحبس الأنفاس عشية احتجاجات جديدة لـ"السترات الصفراء"

فرنسا تحبس الأنفاس عشية احتجاجات جديدة لـ"السترات الصفراء"

07 ديسمبر 2018
الأزمة مستمرة منذ 17 نوفمبر (Getty)
+ الخط -
تتلاحق الأحداث والتصريحات في ما يخصّ أزمة "السترات الصفراء" التي تشهدها فرنسا، في انتظار خطاب للرئيس إيمانويل ماكرون بداية الأسبوع المقبل، بحسب تأكيد رئاسة البرلمان، التي بررت هذا التأخر والانتظار بـ"عدم رغبة رئيس الجمهورية في صبّ المزيد من الزيت على النار".

هكذا تأتي أخبار سرعان ما تكذبها أخرى، ليَحار مراقب الوضع الفرنسي في استخراج الخلاصات واستشراف المستقبل القريب، وكأنه أمام لعب دمى روسية، كل دمية تخفي في ثناياها أخرى، في متواليات لا تنتهي.

وهكذا أيضاً، تبدو أزمة "السترات الصفراء" متواصلة، لكن تفرعاتها هي التي تصعد إلى السطح وتصنع الحدث، أحياناً.

الأزمة الاجتماعية العاصفة مستمرة منذ 17 نوفمبر/تشرين الثاني، والمقترحات الحكومية للخروج منها، بما فيها إلغاء ضرائب 2019 على المحروقات، وبدء استشارة وطنية كبرى، خلال ثلاثة أشهر، يحضرها ممثلو "السترات الصفراء"، لا ترضي المضربين، الذين لا يزالون يحظون بالتفاف شعبي كبير، وغير مسبوق، رغم سلبيات "السبت الأسود"، التي صورت باريس في حالة حرب، كما بلفاست في زمن الجيش الجمهوري الأيرلندي.

وقد نجح ماكرون وأعضاء الحكومة في جعل مخاطر تظاهرة الغد، تأخذ الصدارة في وسائل الإعلام، وتشكل هاجساً لدى الرأي العام، وسمح بعض الوزراء لأنفسهم بالتهويل مما قد يحدث في حال خروج المتظاهرين للشوارع، كما قال المتحدث باسم الحكومة، بنجامان غريفو، إن "بعض العناصر تريد قلب النظام"، يرافقه الحديث عن احتمال سقوط قتلى، بسبب نوايا بضعة آلاف من المشاغبين، من أقصى اليسار واليمين، الوصول إلى العاصمة والاشتباك مع قوات ضخمة من الشرطة والدرك (8000 في باريس، و89 ألفاً في عموم فرنسا)، تؤازرهم 12 مدرعة عسكرية في العاصمة.

ولأن المسألة الأمنية في فرنسا بالغة الحساسية، بسبب الاعتداءات الإرهابية التي ضربتها سنة 2015 وما بعدها، ولأن رجال الأمن دفعوا ثمناً غالياً في هذه الاعتداءات، فقد وجدت الطبقة السياسية الفرنسية، خاصة المعارضة، نفسها في وضعية حرجة، فهي تثق في شرطتها الوطنية، وتؤيدها، بقوة، بوجه الفوضويين والمشاغبين والمتطرفين، ولكنها لا تريد، باسم الحرص على سلامة المواطنين والمنشآت والرموز، حرمان المواطنين من حق التظاهر السلمي، خاصة أن مطالبهم عادلة وشرعية، كما تؤكدها رغبة المعارضة اليسارية البرلمانية، مجتمعة، في تقديم عريضة سحب الثقة من الحكومة، يوم الإثنين المقبل.

ولأن إيمانويل ماكرون يعرف أنه في هذه اللحظات، ليس هو الشخصية السياسية التي يمكن أن تقنع المواطنين، بسبب ما اعتبرته المعارضة أخطاء في التعامل مع الأزمة؛ من صمتٍ طويل، ثم خطاب عن عموميات وعن هموم نهاية العالَم، كما يقول المضربون، فقد وجّه نداء لكل القوى السياسية المعارضة وأيضاً للنقابات، التي طالما احتقرها وحاول كسرها بإصلاحاته العنيفة، بأن تدعو للهدوء والأمن، وهو ما فعلته.

وحتى النقابات الأكثر عداء للرئاسة، مثل "سي جي تي" و"قوة عمالية"، ذهبت في هذا الاتجاه، بل وبعيداً في اقتراح مشاركة مناضليها وأطرها في حماية وتأطير تظاهرة السبت، التي دعت إليها "السترات الصفراء"، وذلك منعاً للاشتباك مع قوات الأمن.

لكن الحكومة الفرنسية تظلّ متخبطة، فغالباً ما تصدر تصريحات متناقضة؛ فرئيسها يصدر مقترحاً بتجميد الزيادة في الضرائب، في بادرة لإخماد الحراك الاجتماعي، ويذهب للدفاع عنه بقوة أمام نواب الأمة، وبعد ساعات قليلة يصدر الإليزيه فجأة توجيهات مغايرة (تتحدث عن الإلغاء وليس تجميد ستة أشهر) تهين رئيس الحكومة. وفي مواجهة بعض ممثلي "السترات الصفراء"، يتحدث وزراء عن إمكانية إعادة الضريبة على الثروة (ضريبة التضامن)، وهي من بين مطالب الحراك، فيخرج الإليزيه لتكذيب الأمر.

وفاقمت هذا التخبط الحكومي تصرفاتٌ من قبيل تصريح لرئيس الحكومة في اتجاه النقابات: "النقابات ستُحاسب على تصريحاتها"، وهو ما اعتبره زعيم نقابة "سي جي تي" تصريحاً "فضائحياً". 

   

ولعل أكثر تخبطات الحكومة قسوة، مشاهد تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي عن عشرات من التلاميذ، في ثانوية في الضاحية الباريسية، وقد وضعوا في صفوف، مكبلين وجاثين على ركبهم وأيديهم على رؤوسهم، تحيط بهم مجموعات من رجال الشرطة المسلحين بالهراوات والتروس وعلى رؤوسهم خوذات، في منظر مهين، جدير بجمهوريات الموز.

فقد خرجت الجماهير التلاميذية، قبل أيام، في تظاهرات في مختلف فرنسا، رافضة إصلاح التعليم وشروط ولوج الجامعة، معتبرة أن هذا الأمر يخلق نوعاً من الانتقاء والتمييز، كما نددت بزيادة رسوم التسجيل على الطلبة الأجانب، غير الأوروبيين، بنحو 16 ضعفاً. وقد اعتقلت قوات الشرطة أكثر من 700 تلميذ، خلال يوم.

وصدرت تنديدات بهذه المعاملة القاسية، والتي سبقتها مشاهد كثيرة على الشبكة لم تحظ باهتمام سياسي كبير، عن عمليات تعنيف وضرب مبرح تعرض له بعض المتظاهرين السلميين.

وتحدث فيليب مارتينيز، الأمين العام لنقابة "سي جي تي" العمالية، عن "حكومة تلعب بالنار"، ووجه انتقاداً للحكومة مفاده بأنه "لا يمكن ضرب الأطفال". من جهته، اعتبر بونوا هامون، رئيس حركة "أجيال" اليسارية، هذه المشاهد، "محبطة وغير مقبولة. هذا ليس بالجمهورية. الشباب الفرنسي مهان".

ولاحقاً، اعتبر وزير التربية الوطنية هذه الصور "صادمة"، لكنه استدرك: "يجب وضعها في سياق الأحداث".

وعلى كل حال، فإنه بعد تظاهرة الغد، في باريس وفي مختلف مدن وبلدات فرنسا، وبغض النظر عن حجم التظاهرة، لا تزال الأزمة مستمرة مع استمرار الاعتصامات وقطع الطرقات والطرق السيارة، ومحاصرة خزانات الوقود، وهو ما يستوجب إيجاد حل له.

وتبقى نقطة ضعف حركة "السترات الصفراء"، والتي يمكن أن تراهن عليها الحكومة، وهو ما ستفعله، بالضرورة، هي صعوبة انبثاق ممثلين يحظون بالشرعية من رحمها.

ويبدو أن حقد "السترات الصفراء" على العمل السياسي وعلى المعارضة وعلى الحكومة ورئيس الجمهورية، وعلى النقابات، هو أكبر عائق في وجهها. وربما قد يتسبب في فشلها، وبالتالي في هشاشة نتائجها، مع احتمال فقدان التفاف الشعب من حولها. فكل احتضان يبقى مؤقتاً، ولن يستمر إلى ما لا نهاية. فـ"السترات الصفراء" عرفوا كيف يبدأون، وعليهم أن يعرفوا كيف يخلُصُون إلى نهاية مشرّفة.