عُمان بين السعودية وإيران: دبلوماسية هادئة في خليج يغلي

21 ابريل 2016
يطغى اللون الأبيض على العاصمة مسقط (محمد محجوب/فرانس برس)
+ الخط -
من يسعه في أوروبا أن يحدد موقع عُمان على الخارطة؟ من يعلم أن سلطنة عُمان ليست إمارة من دولة الإمارات العربية المتحدة؟ أي مسؤول سياسي في فرنسا قادر على تسمية عاصمتها مسقط؟ على الرغم من كل ذلك، تؤدي السلطنة دوراً فاعلاً في منطقة الخليج المضطربة وحتى خارج المنطقة. وتولي واشنطن السلطنة أهمية كبيرة لدرجة أن وزير الخارجية الأميركية جون كيري، شارك في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، في احتفال السفارة العُمانية في واشنطن بمناسبة العيد الوطني الذي يتزامن مع عيد ميلاد السلطان قابوس ومرور 45 عاماً على تبوئه العرش في حينها. 

وبعد بضعة أسابيع، وافقت عُمان على استقبال عشرة من معتقلي غوانتانمو على أراضيها، لتستضيف بالمجموع عشرين منهم منذ يناير/ كانون الثاني 2015، مساهمةً بذلك في تحقيق وعد الرئيس باراك أوباما بإغلاق هذا المعتقل. ويزيد من قيمة هذه المساهمة واقع أن عُمان هي العضو الوحيد في مجلس التعاون الخليجي الذي ليس لديه أي مواطن مسجون في غوانتانمو.

ليس هناك حيّ شبيه بـ"وسط البلد" في مسقط، على غرار ما هو منتشر في العواصم العربية، بل أحياء تفصلها أحياناً عشرات الكيلومترات ويربط بينها أوتوستراد يعبر المنطقة السكنية. تبدو العاصمة كأنها محشورة بين البحر (خليج عُمان الذي يربط المحيط الهندي بالخليج العربي الفارسي) والجبال (عبارة عن صخور ترتفع من قلب المدينة نفسها). وفي حي القرم السكني الذي يشكل الرئة الخضراء للمدينة بحديقته ومحميّته الطبيعية، تم تدشين دار الأوبرا عام 2011.

تتنوّع العروض الموسيقية من "ماي فير لايدي" (my fair lady) إلى "مانون" (Manon) مروراً بعمل شكسبير "ماكبث" (Macbeth)، إضافةً إلى مجموعات موسيقية عربية. وفي 14 و16 أبريل/ نيسان، استقبلت الدار فرقة أوبرا فيينا لتقديم عرضين من مسرحية "ويرثير" (Werther)، كان السلطان نفسه صاحب القرار في بنائها كما في هندستها الرصينة. على كل الأبنية هنا في مسقط أن تحترم طرازاً معمارياً محلياً، مع ألوان مفروضة يغلب عليها البياض، ذلك أن البيئة العامة أولوية، حيث لا يجد زائر مسقط ناطحات سحاب تسد الأفق كما هو الحال في الدوحة أو دبي.

يهيمن السلطان قابوس على كل أوجه الحياة السياسية، وإن كان سنّه وحالته الصحية يبعدانه أحياناً لفترات طويلة عن بلده. في عام 1970، أزاح قابوس والده الذي كان حاكماً يريد إبقاء البلد بمنأى عن العالم الخارجي، وهو بلد لم يكن هناك فيه أي مدرسة حقيقية. تلقى السلطان وقتها مساعدة العرابين البريطانيين، والذين لا يزالون أصحاب نفوذ كبير في السلطنة، حتى بعدما حلت محلهم الولايات المتحدة التي وقعت معها عُمان سنة 1980 اتفاقاً عسكرياً، يتم تجديده مذاك بصورة دورية. في الستينيات، وقفت السلطة بوجه التمرد الماركسي اللينيني القوي للجبهة الشعبية لتحرير عُمان في إقليم ظفار المتاخم لليمن. بمساعدة عسكرية من إيران الشاه، أعاد السلطان قابوس إحكام السيطرة على البلد ووضعه على درب تحديث نسبي وسياسة "أبوية" ترغب برسم صورة عطوفة للسلطان.

قاعدة قابوس في التعامل مع جيرانه بسيطة: "صفر مشاكل". لذا كان عليه التفاوض على ترسيم الحدود والتنازل أحياناً، كما فعل مع المملكة العربية السعودية، عن أراضٍ كان يعتبر أنها تعود إلى بلده، ذلك أنه في عرفه، يستحق السلام التضحية ببضعة كيلومترات مربعة من الصحراء. ويوجز رجل أعمال من عُمان الوضع على الشكل التالي: "جيراننا باقون هنا، وليسوا عبارة عن خيم نستطيع إزاحتها. أراد السلطان بعدها أن يصيغ نموذج مواطنة عُمانية عبر تعزيز حس انتماء وطني يتجاوز العصبيات القبلية والإقليمية، حيث لا يسمح القانون في السلطنة بحمل جنسية مزدوجة".

على مسافة غير بعيدة عن دار الأوبرا، يقع مقر وزارة الشؤون الخارجية الفسيحة، والتي تضم ألف موظف. سيد بدر بن حمد البوسعيدي، هو الأمين العام للوزارة، بصفة وزير. البوسعيدي من مواليد عام 1960، وينتمي إلى عائلة مؤسسي السلالة الحاكمة منذ عام 1747. في دشداشته البيضاء الأنيقة وحزامه المزين بخنجر مع نصل عريض ومعكوف ورأسه المغطى بالعمامة الخضراء، يهتم هذا الدبلوماسي المؤثر أولاً بأن يذكّر بلغة إنكليزية ممتازة بأن فلسفة السياسة الخارجية حددها السلطان، "مؤسس الدولة الحديثة"، على حد تعبيره.

ويشدد البوسعيدي أولاً على دور الوسيط الذي يضطلع به بلده. استقبلت عُمان في مدينة صلالة مفوضين ليبيين موكلين بكتابة دستور جديد. زار الوزير نفسه بانتظام هذه المدينة لتسهيل الحوار. ويقول عن ذلك "بالطبع، لم يتم حل كل العقد، لكن لمجرد أن تلتقي الأطراف المتنازعة، فهذا أمر إيجابي". يذكر المسؤول العُماني نفسه بأن بلده اتخذ موقفاً إيجابياً من اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل سنة 1978 وكان أحد الوزراء العرب الأوائل الذين قابلوا يوسي بيلين سنة 1995 حين كان الأخير نائب وزير الخارجية بعد اتفاق أوسلو في عام 1993. وتحوي مسقط أيضاً كذلك آخر "آثار" اتفاقات السلام العربية الإسرائيلية، أي مركز الأبحاث حول تحلية مياه البحر الذي يعقد سنوياً اجتماعين ما زال يشارك فيهما إسرائيليون وفلسطينيون. في المقابل، يشدد الوزير البوسعيدي على نقطة لا يتفق حولها العديد من المسؤولين العرب أو الأوروبيين، ألا وهي أن "فلسطين هي أم كل الصراعات في المنطقة. كل الصراعات الأخرى تنبع من هذا الصراع".
ويقول الدبلوماسي العُماني إن "حلّ الصراعات يعتمد أولاً على الأشخاص المعنيين، وعلى القوى الخارجية أن تكتفي بالمساعدة على التسوية وأن تمتنع عن الوقوف مع هذا الطرف أو ذاك. يفترض ذلك التخلي عن اللجوء إلى القوة والبحث عن حل ليس فيه غالب ولا مغلوب، وإلا فستستمر الأحقاد وستُستأنف الصراعات". لم تكتفِ السلطنة برفض المشاركة في التحالف العسكري بقيادة السعودية في اليمن فحسب، بل حثت واشنطن أيضاً لتضغط على الرياض لفتح باب التفاوض السياسي، الحل الذي تبناه السعوديون أخيراً مع دخول مغامرتهم العسكرية في ما يبدو أنه مستنقع يصعب الخروج منه عسكرياً.

ثمة حادث يختصر "الفلسفة" التي تسير السلطنة على هديها. في 19 سبتمبر/ أيلول 2015، تعرض مقر إقامة سفير عُمان في صنعاء للقصف من قبل مقاتلات التحالف الذي تقوده السعودية. صحيح أن الاحتجاج العُماني كان فورياً وشكل حالة غريبة عن الحذر المعتاد لديبلوماسية السلطنة، فإن مسقط فعلت كل ما في وسعها لتجنب التصعيد اللفظي وواصلت في الوقت نفسه جهودها لتحرير رهائن سعوديين من قبضة الحوثيين، وهي ساهمت كذلك سنة 2015 في تحرير عدد من الرهائن الغربيين بينهم فرنسية في عام 2015.

إنّ معرفة عُمان الدقيقة بالساحة السياسية اليمنية وصلاتها بالقبائل، وبينها تلك المنخرطة في "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب"، دفعت بالولايات المتحدة للإصغاء إليها، والموافقة على أن تتوقف ضربات الطائرات من دون طيار في اليمن عن الانطلاق من قواعدها في عُمان، ولديها هناك ثلاث قواعد، بينها مطار ثمريت في ظفار، ذلك أن السلطنة لا ترغب بأن يتم زجها في الصراع. وإن ظلت واشنطن السند الرئيسي للسلطان، فهو يحاول ألا يعتمد على حليف واحد. وفي هذا السياق، أعلنت الصحافة المحلية في 14 أبريل/ نيسان الحالي أن السلطنة وقعت خمس اتفاقيات دفاع مع شركات أجنبية، ثلاث منها أميركية وواحدة فنلندية وأخرى تركية.

تكفي نظرة بسيطة إلى الخارطة لفهم معضلات السياسة الإقليمية للسلطنة، العالقة بين جارها السعودي القوي شمالاً، وإيران على الضفة الأخرى. في الوسط، لو جاز التعبير، نجد مضيق هرمز الذي يقع جزئياً تحت السيادة العُمانية، وهو يشكل معبراً استراتيجياً يمر به جزء مهم من التجارة النفطية العالمية. أما الدين، فيشكل عاملاً آخر في تحديد السياسة الخارجية.

صحيح أن العمانيين عرب مسلمون، فهم يدينون بالإباضية، وهو فرع من الإسلام ينأى بنفسه في الآن نفسه عن الشيعة وعن السنة. يتواجد أتباع هذا المذهب ضئيلو العدد في مزاب الجزائرية وجزيرة جربا التونسية وليبيا.

يشرح هذا الانتماء الأقلوي بضع مبادئ أساسية في سياسة العُمانيين الخارجية: الخوف من الوهابية التي تدين الإباضيين بصفتهم مشركين، والتي تخدم دعايتها المساعي السعودية باتجاه الهيمنة، ما ينتج عنه تعاطف عقلاني مع إيران، يمكن وضعه في خانة "تقارب الأقليات". هنا في السلطنة، يشكل الشيعة ما نسبته 5 في المائة من إجمالي السكان، هم تجار عموماً ولا يُنظر إليهم كحصان طروادة تابع لإيران، كما هو الحال في بلدان خليجية أخرى، وبوسعهم ممارسة معتقدهم بحرية في مساجدهم.

كيف يمكن لدولة مثل سلطنة عُمان الإبحار بين صخور بهذه الخطورة؟ لطالما أعربت السلطنة عن رغبتها بضم إيران إلى إطار الأمن الإقليمي لمنطقة الخليج. يذكّر الوزير البوسعيدي بأنه "عام 1977 استضفنا هنا مؤتمراً إقليمياً للأعضاء المستقبليين في مجلس التعاون لدول الخليج، اليمن وإيران والعراق. كنا نريد الحديث عن بنية أمنية مشتركة". لم تغيّر الثورة الإسلامية في إيران (1979) هذه المقاربة، وإن كانت أفضت إلى خروج آخر الجنود الإيرانيين من عُمان. لم يسهل السلطان المفاوضات السرية بين واشنطن وطهران التي أفضت إلى الاتفاق النووي فحسب، لكن السلطنة رفضت أيضاً بحزم، عرض تحويل مجلس التعاون إلى اتحاد أراده الملك عبد الله. وعن هذا الموضوع، يقول البوسعيدي: "فلنضع أولاً موضع التنفيذ الاتفاقيات العديدة التي وقعها مجلس التعاون، خصوصاً حول التعاون الاقتصادي والتجاري، وإن كانت بعض الدول ترغب بإنشاء اتحاد، فليس لدينا اعتراض، لكننا لن نشارك فيه".

هذه الخشية حيال الرغبة السعودية بإقحام البلدان الأخرى في تحالف معادٍ لإيران، يعبر عنها مثقف عُماني من دون المراوغة المعروفة لدى الديبلوماسيين عادةً، بعدما يشير إلى أن موقف السلطنة الاعتراضي إزاء السعودية، أسعد أعضاء مجلس التعاون ممن لم يكونوا يجرؤون على الوقوف في وجه سياسات الرياض وطلباتها. في المقابل، فإنّ العلاقات مع دولة الإمارات ليست ممتازة. في نهاية 2010، أعلنت السلطات العُمانية عن اكتشاف شبكة تجسس ممولة من قبل إمارة دبي، كانت مهمتها إحداث تغييرات سياسية في السلطنة أقرب إلى الانقلاب. يزيد من حدة التنافس مع دبي واقع أن هذه الإمارات شكلت في ما مضى جزءاً من الإمبراطورية العُمانية، كما لا يغفلون عن التذكير هنا في مسقط.

تتمتع عُمان، مع إطلالتها على المحيط الهندي، بتاريخ قديم وغني يميّزها عن جيرانها. يحلو لكثيرين هنا أن يذكّروا بهذه التقاليد، وبواقعة أن ملك فرنسا لويس الرابع عشر تطرق إلى مصير هذه المنطقة التي صارت اليوم سلطنة عُمان، خلال مفاوضاته مع الفرس. في منتصف القرن السابع عشر، تحرر البلد من قبضة البرتغال وأنشأ إمبراطورية على ضفة أفريقيا الشرقية، باسطاً سيطرته على زنجبار. وفي القرن الثامن عشر، دشن مؤسس السلالة الحالية عصراً ذهبياً سيمتد فيه تأثير عُمان إلى بلوشستان. وكأن هذا يصغي لنداء المحيط، ليس بسبب تواجد 700 ألف عامل هندي على أرضه فحسب، بل أيضاً لأنه يحلم بأن يصبح مركزاً تجارياً مع افتتاح ميناء جديد على المحيط الهندي في دقم، يسمح بتصدير البترول من الخليج وبالاستيراد من دون المرور بمضيق هرمز الخطير. لكن هذا الحلم، والذي من شأنه السماح للسلطنة بإعادة وصل ما انقطع مع تاريخها، يعتمد على إرادة الجيران أيضاً، وفي مقدمتهم السعودية ودولة الإمارات، اللتان لا تبدوان مستعجلتين لنقل صادراتهما من هذا المرفأ، وتقديم هذه الهدية لسلطنة غيورة على استقلاليتها وتتوجس من جيرانها الشماليين.

يتابع المثقف العُماني نفسه تعليقه مشيراً إلى أنه "سيكون من الساذج الاعتقاد بأن السلفية تتطور لوحدها من دون داعمين. القادة السياسيون في الرياض يشجعونها، يكفي الاستماع إلى عظات الشيوخ السعوديين والدعوات المستمرة للجهاد. تحت غطاء ديني، يتعلق الأمر أولاً بترسيخ الهيمنة السعودية". وفي الوقت الذي ينتشر فيه شكل من التطرف السني، خصوصاً على وسائل التواصل الاجتماعي في السعودية، على شاكلة إدانة الإباضيين "الكفرة"، و"خدم إيران"، أو ببساطة "الكلاب"، تشدد السلطة في عُمان رقابتها المحكمة على سلوكيات كل المعارضين. وتضم وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، من دون احتساب أئمة المساجد، 6 آلاف موظف يراقبون عن كثب العظات ووسائل التواصل الاجتماعية. رسمياً، يضم البلد 75 في المائة من الإباضيين و20 في المائة من أهل السنة و5 في المائة من الشيعة، لكن في الواقع معظم المتابعين الأجانب في مسقط يعتقدون بأن السكان يتوزعون بالتساوي تقريباً بين إباضيين وسنة، مع تقدم عددي بسيط للسنة طبعاً.

في مساجد عُمان، يصلي الإباضيون والسنة جنباً إلى جنب. يعين السلطان المفتي الذي يشرف على العبادات ويتم إعداد الأئمة تحت إدارة موحدة. لا ننسى هنا بأن منطقة ظفار، مسرح ثورة الستينيات، هي ذات أكثرية سنية، وتعيش شعوراً مزمناً من الإهمال نوعاً ما.

يخوض جسم الشرطة الذي أنشأه البريطانيون في السلطنة، ويحظى بإشادات الحلفاء الغربيين لناحية فعاليته، معركة ضد الإرهاب بصورة رئيسية، لكنه يراقب أيضاً عن كثب كل أصناف الاحتجاجات. وتظهر النتيجة جلية: ليس هناك إلا ما يقارب عشرة عُمانيين ذهبوا للقتال في صفوف تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). لكن تظاهرات فبراير/ شباط 2011، في خضم الانتفاضات العربية، تسببت بقتيلين وشكلت طلقة تحذير في بلد يقل سن 32 في المائة من مواطنيه البالغ عددهم 2,3 مليون، عن الخامسة عشرة، وتزداد صعوبة البحث فيه عن عمل. باعتبارها منتجاً صغير للمشتقات النفطية، تلقت عُمان ضربة بسبب انخفاض الأسعار العالمية ونسب العجز في موازنتها المالية باتت كبيرة، في حين يرفض البلد الاعتماد على مساعدة بلدان الخليج الأخرى. إن كان الاستقرار يبدو مؤمّناً، إلا أن غياب السلطان لفترات طويلة عن البلد قد يفتح صفحة صعبة من حاضر السلطنة ومتسقبلها، وخصوصاً أنه ليس للسلطان من أبناء، وأن ولاية العهد لم تُحسم بعد بين أولاد أخيه الثلاثة.
المساهمون