تدمر السماوية

26 مايو 2015
+ الخط -
في الإنجيل المقدّس، في السِفر السابع والعشرين الخاصّ برؤيا يوحنا، وصفٌ للقدّس السماوية: "ثمّ رأيتُ سماءً جديدة وأرضًا جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا". مدينة بهية ممتلئة بالإيمان المسيحي، وأهلها يرفلون بنعم الله: "ولا يكون ليلٌ هناك، ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس، لأن الربّ الإله ينيرعليهم، وهم سيملكون إلى أبد الآبدين". طمأنينة ما بعدها طمأنينة، ينالها المؤمنون بعد عذابٍ ودرب آلام شديدين. مدينة سماوية لا مكان فيها للحزن الأرضي البادي في عيون المؤمنين المعذبين: "وسيمسح الله كلّ دمعة من عيونهم".
للنصّ المقدّس ميزات لا تحصى، ومعانٍ اجتهد رجال الدين في تقريبها من أذهان الناس. ولرؤيا يوحنا تفاسير شتّى، منها أن القدّس السماوية مجازٌ للكنيسة في بهائها واكتمالها. بيد أن للنصّ المقدّس أيضًا، قوّة الإشعاع في قلوب الضعفاء والمخذولين، بعيدًا من أي تفسير. فعلى أقلّ تقدير، تبدو رؤيا يوحنا، كعزاء للضعفاء الذين كان نصيبهم الخذلان من كلّ شيء. وبدت القدّس السماوية في الرؤيا، مكانًا حقيقيًا يعيش فيه الناس. إذ إن وصف المدينة بحلّتها الفائقة الجمال وأحجارها وزخارفها التي لم ترَ مثلها عين، لم يكن منفصلًا البتة عن وجود أهلها فيها. وبكلام أبسط فإنها تجمع البشر والحجر.
لم يوضع اللفظان الأخيران لأن التقفية فيهما واضحة، بل بسبب ورودهما معًا وعلى حدة، في غير ما خطاب أو ستاتوس فيسبوكي، يفاضل من الأوّل بينهما، ما أن اقتربت داعش من تدمر، ثم أخذتها برّمتها.
تدمر اليوم مهدّدة بالقصف والطيران والتهديم، من بعد أن أدّى النهب والتخريب والسرقة واجباتهم على أكمل وجه. ووراء الألفاظ الثلاثة: القصف والطيران والتهديم، يمكن لمن يحبّ السياسة أن يوّزعها على الأطراف "اللاعبة" على مسرح تدمر، مكان البشر والحجر. هل الناس ناسٌ من دون مدينتهم؟ أليست العمارة بصمة الإنسان الأولى على الأرض؟. ضدّ العمارة، مدن مهدمة، مدن اندثرت، فهجرها أهلها. البشر والحجر، صنوان لا ينفصلان.
بيد أن في عمارة تدمر وآثارها، عبرة ربّما، إذ فيها تلك المدافن البرجية، (يسمونها بيت الأبدية) حيث الموتى في مقابر حجريّة، فوق الأرض لا في باطنها. ولعلّ التدمريين وحدهم، في المشرق على الأقلّ، أرادوا للموتى تلك الأبراج الحجرية التي ترتفع لأكثر من طابقين، ليرتقي الناس نحو الموت ويصعدوا صوب السماء.
في داخل المدافن الحجرية، لا يملك المرء إلا النظر إلى الأعلى، صوب السقف المزخرف والملوّن. يطلّ اللون الأزرق من ثنايا زخرفات سقف أحد أشهر المدافن البرجية: مدفن إيلابل.
تنتظر المدافن البرجية مصيرها، كما إخوتها من آثار تدمر وأهل تدمر. لذا يستعد المصورون، يضبطون عدسات كاميراتهم تحضيرًا للقطة الأولى، حال لم تفز بالسبق، كما هو متوقع كاميرات "داعشية". داعشية بين مزدوجين، لا لأن الكلمة وافدة حديثًا على لغة الضاد، والاشتقاق منها دونه رخصة نحوية، بل لأن السؤال عن المسؤولية، لن يجد جوابه إلا في شطر شعري: "قالت أيهم؟ فهم كثرُ".
ثمة كثر ممن يحضّرون خطبةً عصماء للقلق أولًا، ثمّ الإدانة والتنديد والشجب. خطبةٌ يتقن الإداريون الديبلوماسيون كتابتها وإرسالها إلى كافّة وسائل الإعلام التي لا تنتظر إلا هذا الخبر. ولا داعي للابتكار، لأن الخطبة لا تبتدع شيئًا، بل تقتفي نموذجًا عامًا، وتبدّل فقط من اسم المكان المنكوب. لكنها خطبة غريبة عجيبة، إذ لها هدف وحيد: إبعاد المسؤولية تمامًا عن المؤسسات والهيئات التي من مسؤولياتها الحفاظ على البشر والحجر. بكلام آخر، هي خطبة تنصّل المسؤول من مسؤولياته علنًا، ما أن يكون عليه الاضطلاع بها.
ليست المشكلة في الخطبة، بل في المهنة نفسها، مهنة الإداري الديبلوماسي التي، حتى لو أُضيف إليها لفظ "تنفيذي"، فإنها لا تنفذ على ما يبدو شيئًا. والأغرب من هذا، هو الجواب الذي يتسلّل إلى النقاش مع الإداريين الديبلوماسيين، حيث فجأة، تدخل السياسة إلى حديثهم. فيقولون إن ثمة مواقف سياسية يجب أخذها في عين الاعتبار، وإن ثمة حسابات سياسية، وإن موقع تدمر استراتيجي، ووجود النفط والغاز فيها، ومخازن أسلحة وغيرها، كلّها أمور لا يمكن إغفالها. وقد لا يجد أحدهم حرجًا في تقديم خريطة للوضع "العسكري" على الأرض التدمريّة. يحضر كلّ شيء في حديثهم إلا الموضوع الرئيس: البشر والحجر. لكنهم في الخطبة العصماء لا يستعملون إلا البشر والحجر للتنصّل علنًا من مسؤولياتهم.
ثمّة حدود لكل شيء، حدود لتلك المسؤوليات غير المقنِعة، في ظلّ واقعٍ يزداد قهرًا كلّ يوم، بينما يزداد أصحاب السلاح، أي أهل القصف والطيران والتهديم، نفوذًا على كلّ المستويات، ولا حدود لهم. ولا حدود أيضًا للمعاني في قصيدة السياب عن فعل الحدود: "شيء يقول "هنا الحدود"/هذا لكلّ اللاجئين، وكلّ هذا لليهود". حدودٌ تقول إن ما قبل تدمر ليس كما بعدها. وبينما يستمر النقاش، يرنو التدمريون من خلال المدافن البرجية، نحو السماء، حيث ستبقى وتظلّ، بأهلها وعمرانها، هناك في الأعالي، محفوظة في القلوب؛ تدمر السماوية.

المساهمون