الأدب كوثيقة اجتماعية

19 ابريل 2016
الفنان الفرنسي تولوز لوتريك (Getty)
+ الخط -
مثلما يوافق الناقد، جمال شحيـد، في أحد أجوبة الحوار معه، على أن أدب نجيب محفوظ يصلح كوثيقة اجتماعية عن حال مصر في زمان كتابته، مُقـرّاً، وإن بصورة مواربة، بـ"قيمته التاريخية المُضافـة"، في وسعنا أن نشير من دون غضاضة إلى أنه كانت للأدب وما تزال
قيمة وثائقية/ توثيقية ملفتة ومؤنسة، قد لا يجوز إغفالها أو اعتبارها نَفَلًا. 

وترتبط هذه القيمة على نحو رئيسي بالسياق العام لأية كتابة أدبية، ورُبمّـا تحدّد من بين عناصر أخرى مبلغ كون المبدع ابن عصره، مع مراعاة أنها لا تُغني، بحال من الأحوال، عما يسميه شحيـد ضرورة عدم الإخلال بالتوازن بين الجمالي - الفني، والتوثيقي - الاجتماعي.
والأكيد أن مثل هذه القيمة محفوظة مثلًا لأدب السيرة.

يقف في قلب مسيرة أدبنا الفلسطيني المعاصر الشاعر، حنا أبو حنا، الذي أولى في كتاباته الغنية والمتعدّدة اهتمامًا خاصًا لأدب السيرة.
وعندما سئل ذات مرة لماذا آثر التركيز على هذا اللون بالذات، أجاب قائلًا "إن الهدف من ذلك هو سرد رواية الشعب الفلسطيني التي لم تُروَ بشكل متكامل، بل هناك أنهار تصب في بحر، وحين يكتب كل واحد سيرته، أي من وجهة نظره، تتكامل الصورة مثل الفسيفساء".
وتابع: "اهتممت في كتاباتي بتعريف الأجيال المتعاقبة بالتراث الثقافي الفلسطيني، ففي كتابي (ديوان الشعر الفلسطيني) اهتممت بأن أعرف بشعراء ظهروا قبل ألف عام، مثل كشاجم الرملي وابن القيسراني وأبي اسحق الغزي والقاضي الفاضل. كما كتبت عن طلائع النهضة في فلسطين وعن دار المعلمين الروسية (السنمار)، وعن ثلاثة شعراء هم إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وأبو سلمى. وجمعت ديوان الشاعر عبد الرحيم محمود في كتاب (روحي على راحتي)، كما قمت بتحقيق ودراسة (رواية مفلح الغساني) لنجيب نصّار".


لدى العودة إلى كتاب "روحي على راحتي" (1985)، الذي تميّز بأنه أوفى طبعة من ديوان عبد الرحيم محمود حتى ذلك الوقت، نجد أن أبو حنا قسّم المقدمة التي صدّره بها إلى جزأين: الأول، مسيرة على اللهب؛ الثاني، من أسرار القيثارة.

يتناول الجزء الأول مسيرة الشاعر الحافلة منذ ولادته في عنبتا (قضاء طولكرم) سنة 1913 حتى استشهاده في تموز/ يوليو 1948 في معركة الشجرة ودفنه من ثم في الناصرة. ويتوقف عند محطات حياته الأساسية، مشيرًا إلى توقّـد التزامه الوطني على خلفية سياسية- اجتماعية محدّدة هي صراع الشعب الفلسطيني ضد الأخطار المتربصة بوجوده وأرضه وكيانيته. هذا التوقد دعاه إلى الانطلاق نحو الفعل في سن مبكرة، وإلى الالتحاق تحت تأثير نموذج المكافح، عز الدين القسّام، بالثوار في منطقة جبل النار (1936- 1939).

ومن وحي هذه المشاركة الفعلية في الثورة كتب عبد الرحيم محمود قصيدته المشهورة "الشهيد"، التي مطلعها بيتان أصبحا رمزًا للشاعر وحياته:
"سأحملُ روحي على راحتي / وألقي بها في مهاوي الردى / فإمّـا حيـاة تســرُّ الصـديـق/ وإمّـا ممــات يُغيــظ العــدى".


وفي إثر انتهاء الثورة التحق الشاعر بالمدرسة العسكرية في بغداد وتخرج منها ورجع إلى فلسطين سنة 1941، حيث ظل يعمل في التعليم حتى استشهاده في صفوف جيش الإنقاذ، وكان قد انضم إليه من خلال دورة تدريبية في دمشق عاد بعدها مع هذا الجيش إلى فلسطين، بداية إلى طولكرم ثم إلى الناصرة. وفي هذه المرحلة وجّه جهوده نحو إيصال رسالته الوطنية من على المنابر، واتسمت رؤيته بالبعد الاجتماعي قرينًا للبعد الوطني.

في الجزء الثاني من المقدمة، يغوص أبو حنا في المعمار الفنيّ في مجموعة من قصائد الشاعر، فيوضح كيف تتخّذ القصائد عبر نموّها أبعادًا ترقى بها من المشهد المحسوس إلى الرموز المطلّة على آفاق من الإيحاء أو سبر أغوار التجربة الإنسانية. وفي هذا المضمار، تتجلّى طاقة الخيال الشعري الذي تفجرّه الموهبة. ولم يرض الشاعر أن يقف عند نهج بعينه بل كان يسعى باحثًا مجدّدًا. وفي سعيه هذا كان ينتقل من المنبرية إلى عمق التأمل الداخلي، سواء في نفسه أو في مجتمعه.

وتماشيًا مع ما يقوله الدارس، أضيف أن قصائد عبد الرحيم محمود كانت في معظمها مشحونة بنبض الواقع، وانعكاسًا فنيًا لظواهر الحياة، ولذا تبدّت صوره كنوع من الواقع المادي المنعكس، لكن هذه الصور موضوعة طبقًا لوعيه الفردي ولتصوراته السياسية والأخلاقية والدينية وغيرها عن العالم. وستُظلم إذا ما قُرئت بمنأى عن هذا كله، أو إذا ما نُظر إليها فقط كوثيقة اجتماعية عن حال فلسطين، مع أنها تصلح لأن تكون كذلك.
المساهمون