لا يلتئم شملُ علمٍ من العلوم الإنسانية إلا إذا نضجت مفاهيمُه الإجرائية أوّلاً، ثم استوت المُصطلحات الدالة عليها ثانياً، دليلاً على اكتمال مادته النظرية واستقلاليتها. فليس العلم سوى شبكة اصطلاحات مُتماسكة تحيل على موضوع محدد. وقد تغطي هذه الأخيرة، رغم دقتها، حقولاً علمية متداخلة فتتقاطع مدلولاتها. وقد باتت هذه الظاهرة تعرف اليوم، في العلوم الإنسانية، باسم interdisciplinarité، وهو ما يمكنُ تَرجمته بتقاطع العلوم وتداخلها، بسبب استخدامها مصطلحات ومنهجيّات مشتركة.
وقد اختارت كلٌّ من ماري-بول جاك وأنياس تيتان (جامعة غرونوبل- فرنسا)، أن تعودا إلى هذه الإشكالية اللافتة من خلال مُؤَلف، صدر مُؤخّراً تحت عنوان "المُعجم المُتقاطِع وصيغ الخطاب في العلوم الإنسانية" (منشورات "إيستي").
يستعيد هذا الكتابُ حصيلة أبحاثٍ سابقة، تناولت مسألة المعجم العلمي مُتَعدّد الاختصاصات، في اللسان الفرنسي، واختصاره L.S.T. وتعني المؤلفتان بهذا المفهوم المُفرداتِ التي يستخدمها الباحثون في العلوم الإنسانية لتوصيف نتائج أبحاثهم والتنظير لها. وهي مفردات تميّز نثرهم العلمي في ورقاتهم البحثيّة وبها يَنهض قوامُها. ولذلك، سعى هذا الكتاب إلى استجلاء أهم الخصائص المعجمية والخطابية التي تميّز النثر في حقول الإنسانيات، مثل الفلسفة والتاريخ واللسانيات والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، إلى جانب الميزات الدلالية والتركيبية وحتى نوعية صياغة الجملة في هذا الجنس من الخطاب.
يَتألّف هذا المجموع من قسميْن كبيريْن: خُصّص الأول منهما إلى تحديد ماهية المُعجم المُتقاطع وبيان دوره في صياغة العلوم الإنسانية المعاصرة. ويتضمّن هذا القسم دراسةً أولى، بقلم الباحث سيلفان هاتيي، عالجت الأسماء الأساسية المستخدمة في هذا المعجم، بعد التعريف به وبيان خَصائصه الدلالية والشكليّة. كما يتضمّن دراسة ثانية، وهي بقلم فرانسيس غروسمان، بعنوان: "المفاعيل والظروف الدالة على العادة والتعميم: نمط اشتغالها اللساني ودورها في الكتابة العلمية"، وفيه رَكَّز على المفردات والصيغ النحوية الدالة على مبدأ العموم مثل عبارات: عُموماً، عادةً، غالباً ما، بصفةٍ عامة، بشكل عمومي، في الجُملة... واصفًا آليةَ عملها الدلالي والتركيبي في صياغة القول العلمي، المعني بالقوانين الاجتماعية والثقافية لدى الإنسان.
ومن هذه الخصائص، هيمنة الأفعال المبنية للمجهول مثل: لوحظ، عُلِم، جُرّب، والأفعال غير المسندة إلى فاعل: يَظهر أنَّ، يبدو أنَّ، يُقال إنَّ... وهيمنة المصادر مع بعض النعوت، من قبيل: من الممكن القولُ إنَّ، من الصعب التأكيدُ أنّ، من الجائز الإقرار أنّ... والصيغ اللاشخصية مثل: قيل إنّ وعُلم أنَّ، وهي وسائل تؤكد تفسُّخَ صورة المتكلم وغيابه في مثل هذه الخطابات. وتشمل هذه الخصائص أيضاً بنية المثال ذاته كتقسيمه إلى وَحدات عبر عناوين كبرى وعناوين فرعيّة.
وقد خصّصت الباحثة أنياس تيتان دراستَها للعبارات الدالة على مبدأ الافتراض التي يستخدمها الباحثون الإنسانيون، بقطع النظر عن اختصاصاتهم الدقيقة، من قبيل: وجهة نظر، تسليط الضوء على، بشكل قطعي، أدَّى دورًا، فرضية الانطلاق... ساعيةً إلى استجلاء تأثيرها في صياغة القول التحليلي. كما عالجت مبحثاً طريفاً يعنى بالجُمل التي تستخدم في "الإحالة" إلى داخل النص أو خارجه، مثل عبارات: مما سَبَقَ، كما سيأتي، لاحقاً... وقام أربعة باحثين بدراسة المعجم العلمي بالتركيز على بعض الأسماء والنعوت التي يكثر وُرودها من غير الاصطلاحات الدقيقة. وهنا تكمن قيمة الكتاب من حيث تَركيزه على المفردات المشتركة.
واهتمّ القسم الثاني من الكتاب بالمنظورات والتطبيقات البيداغوجية (التربوية) التي قد تترتب عن هذا المعجم العلمي المتقاطع. ويحتوي هذا الجزء على ثلاث مقالات؛ تتناول الأولى، وهي بقلم هروي يان، دراسة الأفعال الأكثر وروداً في الأبحاث العلمية والتي تسهم في البناء الخطابي للكلام مثل أفعال الفَرض (نفتَرض، نخمِّن، نَحدس...) والأفعال المُحيلة على مصدر المعلومات وأفعال المعالجة من قبيل: (تَناول، تَطَرَّق، عَالج...)، وينتهي الباحث باقتراح طرق تربوية تمكن الطلبة من الاستخدام الصائب لهذه الأفعال.
وخصّص المقال الموالي، وهو بقلم ثي-تران، للمفاعيل والأحوال والظروف العامة التي غالباً ما يلجأ إليها البحاثة مصنفاً إياها بحسب وظائف ثلاث: الوظيفة الخطابية والوظيفة الصيغية والوظيفة المرجعية. وعالج المقال التالي، وهو من إنجاز ثلاثة باحثين، لائحة بأهم المفردات التي تُقدّم لتلاميذ المستوى الثاني من التعليم الابتدائي في فرنسا وقاموا بتحليل نماذج منها. وأخيراً ختم الكتاب بفصلٍ، بقلم كريستال كافالا، حول المعجم العلمي المقدم إلى الطلبة غير الناطقين بالفرنسية، أي مَن كانت لغتُهم-الأم أجنبيةً في المجتمع الفرنسي.
أما المدوّنة التي اشتغل عليها الباحثون واستنبطوا منها قواعدَهم وملاحظاتهم، فهي المقال أو الورقة البحثيّة بما هي تمرين عقلي مُكثّف، ينطلق من إشكاليةٍ ما، ويسعى إلى الإجابة عنها من خلال مَسار استدلالي وتحريري صارم. إذ يُعدّ المقال النشاط الأهم لفئة الأساتذة-الباحثين والباحثين الشبّان. وكما أسلفنا، لم يهتمّ الباحثون إلا بمجال العلوم الإنسانية باعتبارها حقلاً مُوازياً للعلوم التجريبية والعلوم الصحيحة، وهو ما يهب الكتابة فيها طابعاً خاصاً، لم يحظَ بعدُ بالدرس الكافي. من جهة ثانية، اقتصر هؤلاء الباحثون على المفردات غير المختصة، ومن هنا جاءت تسمية: المعجم المُتقاطِع. ولم تنل هي الأخرى حظّها من التحليل، على عكس المصطلحات والحدود والمفاهيم. وأضيف للكتاب ملحقٌ بلائحة الوحدات المعجمية المشتركة والمقولات الدلالية الناظمة لها في حقول الإنسانيات. ومن الممكن أن يستفيد من هذا الملحق الأساتذة والطلاب الذين يريدون فهم آليات الكتابة في العلوم الإنسانية وهي آلياتٌ تختلف حسب الموضوع والمنهج، ولا تلتقي إلا باهتمامها بالإنسان.
يدفعنا هذا الضرب من التأليف إلى إعادة التفكير في واقع الكتابة البحثية في العالم العربي. ونسجّل هنا أنَّ المقاربات الوصفية لاشتغال مفردات الضاد العامة، في الأوراق البحثية، لا تزال في بداياتها الأولى إن لم نقل منعدمة. وأما الدراسات المعمقة حول الأفعال والظروف والأسماء، في السجلات المختصة، فهي شبه غائبة لأنّ هذه الأدوات اللغوية لم تستقرّ بعد في النثر العلمي ولم تصبح فيه صيغاً ثابتة، ناهيك عن غموضها واختلافها من بلد لآخر.
ومن جهة ثانية، تشهد العلوم الإنسانية العربية، التي لا يُشك في نُضجها، قطيعة مع القارئ العادي، إذ تتسم ألفاظُها وتراكيبها بالتعقيد. ولعلّ القطيعة بسبب هذا التعقيد والتفاصح الذي يَجعل من خطابها الوصفي، مهما بلغت جودته، بعيدًا عن مشاغل الجمهور. فكم عدد قراء كتب الفلسفة والألسنية والاجتماع من غير الأساتذة المُحيطين وبعض الطلبة المهتمين؟ وكم واحداً يتقن مفاهيم اللسانيات، مثلاً، وهي التي ما زالت تعاني من ضبابيتها بسبب كثرة المقابلات المقترحة وتشتت مجاميع اللغة العربية في إقرارها؟
علاوة على ذلك، تعاني العبارات والتراكيب الخاصة بالمقالات العلمية من ظاهرتَين سلبيتين: الأولى تأثرها بالصيغ الجَدلية المتوارثة عن مباحث علم الكلام وأصول الفقه وخلافيات اللغة، وهو ما يجعلها اليوم تبدو أقربَ إلى التقعّر اللغوي. والثانية غلبة صيغ الجدل وأساليب السفسطة والمماحكة والرغبة في إفحام الخَصم. وكلاهما تجاوزه الزمن ولا علاقةَ له بصياغة نثرٍ موضوعي يصف الإنسان وتركيبته الذهنية والنفسية والاجتماعيّة، وهي ما هي تعقداً وتحولاً.