بعد ثمانية دواوين شعرية وثلاثة كتب سردية ورواية واحدة، يصدر، خلال هذا الشهر، للكاتب المصري علاء خالد، كتابه السردي الرابع "مسار الأزرق الحزين" في شكل مذكّرات شخصية.
في أوائل 2014، واجه صاحب "تصبحين على خير" مشاكل صحية، وبسبب خطأ طبي، خضع إلى عملية جراحية معقّدة، الأمر الذي يفسّر، ربما، الأثر الشعري في عنوان الكتاب الذي يقارب هذه التجربة، وهي الشاعرية ذاتها - يقول الكاتب- التي انسحبت على روح الكتاب ككل.
يضيف خالد "كانت لحظة مواجهة مع إحساس غريب. كنت أشعر بمن حولي، لكن تفصلني عنهم مسافة كبيرة، كأنها لحظة استيقاظ للنائم".
اللحظات نصف الواعية هي ما شكّلت قوام الكتاب في أحلامٍ وأفكار وخيالات وأوهام، حيث بدأ صاحب "حياة مُبيّتَة" في تدوينها بعد خروجه بفترة ليست طويلة من المشفى؛ ليتخلّص من إحساس مسيطر بغربة الجسد الذي تخفّف من ملكيته له.
يشرح "لون جسدي تحوّل، وقتها، إلى الأزرق بسبب آثار الإبر الطبية. لم يشكّل هذا صدمة للجسد فقط، كأن اللحظة أوجدت لنفسها طريقاً لتمرير هذا الإحساس المختلف؛ ولذلك كان العنوان".
لحظات التذكّر والمواجهة مع حالة الغياب لم تُسلم صاحب "الجسد عالق بمشيئة حبر" لانغماس كليّ في البعد الحدسي المرتبط بتأمّل لحظات التماس مع العالم الآخر، بل فرضت حكايات الآخرين من حوله حياتها الواقعية على غيابه البرزخي.
يلتقط الكاتب هذا التناقض في عمله، لكنه لا يخفي ضجره من كثافة الواقع، وهو في مكانه الذائب بين حياتين، يوضّح "أنت تنظر إلى حياتك لحظتها كمِلكية لا تريد لأحد أن يسلبك إياها، ليس دفاعاً عنها بالضرورة؛ لأن لحظتك البرزخية ليست خاضعة لا إلى دفاع ولا إلى قبول، كونها تتحرّك بقوانينها الخاصة، ولكن قرب المسافة يورّطك في حياة المشفى والممرضين والممرضات من حولك".
اللحظة الاستثنائية تلك أوجدت لدى خالد قدرة لالتقاط أي تناقض. يضيف "كأنّما لديك عين باطنية ترى بها وضوح المفارقات، فتحتدّ على الجميع، كي تخفّف من تضخّم الواقع حول سريرك".
لا يصف صاحب "ألم خفيف كريشة طائر" اللحظة التي أنتجت كتابه بأنها كانت بين الحياة والموت. ومع أنه لا ينفي صعوبتها، إلا أنه يشير إلى أن ما يعنيه هو ما حفرته عميقاً بداخله، وما أضافته من أفكار وتساؤلات.
يقول "قصائدي التي كتبتها بعد هذه الفترة تتضمّن نبرة مساءلة ومواجهة بيني وبين الإله، تماماً كما في كتابي الجديد، بحيث أن العلاقة ليست هنا علاقة مخلوق بخالق، وإنما المسؤولية المشتركة تجاه الحياة التي إن كانت هبة بالفعل، فأنت تدفع مسؤولية استمرار الكون بألمك".
لكن صاحب "كرسيان متقابلان" لا يرى في معنى المسؤولية المشتركة أي ظلال من الندية أو من فكرة الإلغاء النيتشوية، "لأن الطرف الآخر لا يتحدّث معك، أنت فقط تستحضره في مكانك الجديد، كون الحياة مثمّنة لديك، لذلك تعاتب بمنطق الرغبة في فهم الموقف برمّته".
في السياق ذاته، يوافق أن فكرة المسؤولية المشتركة كانت رجوعاً إلى زمن ديني داخله، تصغر فيه أطروحة "الإنسان الأعلى" أمام تقسيم واضح وديموقراطي للمسؤوليات: "أنا في الأخير جزء من تاريخ البشرية التي تخلق صورها الدينية لتكمل بها ما لديها من نقص، والمحك هنا ليس صواب الأمر من عدمه، إنما هو تواشج هذه الفكرة بصورة البشرية عن ذاتها، بحكاياتها وخيالها وميراثها".
مع هذا، يشير خالد إلى ما يرفد الأزمنة المركّبة بداخل كل فرد في لحظات الغربة التي يسبّبها المرض: "لحظة المرض تمثّل قطعاً مع كل الأزمنة خارجك، فتعود إلى زمن تحمله معك، هو تأمّلاتك الخاصة عن الحياة والحياة الأخرى؛ بحيث تصبح أنت زمنك الذي صنعته بقراءاتك وبالحكايات التي سمعتها وعشتها وبخبراتك الشخصية".
وإذ يؤكّد على دور الخبرات الشخصية في تخليق زمن الإنسان الخاص، فإن الكاتب المصري يعود ليقيم علاقة عضوية بين الخبرات الشخصية والثقافة الحاضنة، بحيث تكون الثانية مفسّرة للأولى.
يحكي عن حلم رأى فيه جسده يطفو في حوض سباحة وتحته خياله، قائلاً "أحسست ساعتها بفكرة "الكا" في الثقافة المصرية القديمة، حيث الروح المادية (القرين) التي تولد على شكل صاحبها وتكون منفصلة عنه، ولم يكن ممكناً أن أفهم حُلمي أو أفسّره إلا بما هو مترسّب من هذه الثقافة".
يضيف "كأن الكتابة في واحد من أبعادها فضح للثقافة التي تنتمي إليها، الفضح بمعنى الضدية، وبمعنى تثبيت مكانك حيث تكون؛ كأنك تكتب شهادة غير سياسية تنفي فكرة التواطؤ أو الرفض".
يعني ذلك عند خالد أن "لكل الخبرات الشخصية القيمة نفسها، لكن بعضها ربّما يكون غير مدرك لاختلاف إحساسك بالزمن ومكانك منه".
يختتم حديثه بقوله "الأمر أشبه بمجموعة من المصافي التي تتفاوت أحجام الثقوب فيها، بحيث تتّسع الثقوب في كل فترة لتمرير خبرات مختلفة؛ لاختلاف النظرة النقدية إليها، ذلك إلى جوار تاريخ من المتخيّل والوهم يجعل الخبرة الشخصية تأخذ طريقها الخاص بداخلك".
اقرأ أيضاً: يوسف رخا: رواية خارجة عن القائمة القصيرة