جانيت لوزانو كلاريوند... نحت بإزميل الذاكرة

جانيت لوزانو كلاريوند... نحت بإزميل الذاكرة

11 يونيو 2020
(جانيت لوزانو كلاريوند)
+ الخط -

بإزميل الذاكرة تنحتُ قصائدها، تحفرها بالحزن الذي يغلِّف ذكريات الطفولة. تصنعُ منها نسيجاً لغويّاً. تبتعدُ عنها، تهجرها، ثمَّ تسكنها. هكذا تكتبُ قصيدتها، وتصير القصيدة هي الواقع الذي تحدث فيه تجارب الحياة الشخصيّة. القصيدة، بالنسبة إليها، هي المختبر الكيميائيّ الذي تُركّب فيه المكوّنات اللغويَّة. هكذا تختبر، تجرّب، وتجعل الكلمات تدخل في اختبارات غير منتظمة. علاقتها مع الكلمات هي علاقة ظهور وتأسُّس وتحقُّق؛ فاللُّغة، بالنسبة إليها، هي ممارسة كيانيَّة تحقّق فيها وجودها، وهي بذلك لا تكتب عن الشيء، بل تكتب الشيء نفسه.

منذ ولادتها لم تفعل سوى العودة وراءً، نحو النبع والأصل وما قبل الولادة، أي الرمز السومريّ، بدءاً من ملحمة جلجامش وانتهاءً بقصّة الخلق البابليَّة. القصيدة، بهذا المعنى، هي سفرٌ دائمٌ إلى ذلك المكان غير المؤكَّد، حيث تعود لتخلق الأشياء بقوَّة الشِّعر، فتنسج علاقات العالم بدءاً من شعور يتجاوز الأنا، الجسد والروح. هنا فقط تستطيع الشاعرة أن تهربَ من قيود الزمن بمعناه الرياضيّ الأجوف، فتتحرَّر من تتابعيَّته وأفقيَّته، وتخلق زمناً كيانيّاً وجوديّاً؛ تتحوَّل فيه الثواني والدقائق والسّاعات إلى انبجاس تلو الآخر.

هذا هو المسار الذي سيتبعه الصوت الشعريّ للشاعرة المكسيكيَّة من أصول لبنانيَّة جانيت لوزانو كلاريوند (تشيهواهوا- المكسيك 1949)، في رحلته عبر متاهة الذكريات، وهو مسار يطوّر نوعاً من لعبة الهُويَّة والذاكرة من أجل هدفٍ واضح: ممارسة الكلمة المضيئة والثاقبة التي تسمح لها بفهم الحياة، وفهم نفسها كشاعرة، وكامرأة، وذلك من خلال فكِّ رموز الماضي وتعرية الكلمة بغية البحث عن روحها. إنَّ هذا سيسمح، بدوره، للشاعرة، بتعرُّف الرموز والإشارات والحقائق الخفيَّة والمعلنة لآلام الماضي، ومن ثمَّ تفجير أركان الصمت لغويّاً وإعادة بناء جوهر الوجود عبر صوت حميميّ مليء بالألم والفرح والحنين والامتنان، يتشكَّل داخل الصمت نفسه.

في ظلِّ مجتمع مكسيكيّ تسيطر عليه الأصوات الشعريَّة الذكوريَّة، يتفجَّر صوت جانيت لوزانو كلاريوند الشعريّ، مرسِّخةً عبره تجربة شعريَّة أنثويَّة فريدة في بانوراما الشِّعر المكسيكيّ. تكشف جانيت لوزانو في كلِّ قصيدة - رحلة نحو الذاكرة والمساحات والأبعاد التي دُفنت من جرّاء الحداثة التي تسير فوقنا. ضمن هذا السياق، فإنَّ عالم جانيت الشعريّ يقوم على أساس الكلمة الشعريَّة المسافرة نحو الذاكرة، التي وهبت كلّ شيء من أجل أن تنقل إلينا المعنى الجوهريَّ للأشياء.


* كاتب ومترجم مقيم في إسبانيا

المساهمون