بسطاء الناس يغيّرون المنطقة

19 مايو 2016
من أصفهان، تصوير: جلال سيبهر
+ الخط -


لعلّ ما ينقص المشتغلين في السياسة؛ خصوصاً في تفسير الحراكات الشعبية العربية خلال السنوات الخمس الماضية، هو قراءة سلوكيات وظواهر اجتماعية تندر الدراسات والإحصائيات حولها، ما يصيب التحليل السياسي والتنبؤ بسيناريوهات مستقبلية بخللٍ كبير، إذا ما أخذنا في الاعتبار هشاشة البيئة السياسية العربية بالنظر إلى ضعف تمثيل الأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني التي قد تنتج فعلاً وسلوكاً يمكن قياس أثره في التغيير.

في مجلّد تجاوزت صفحاته الستمائة، وبحث تواصل لعشر سنوات، يركّز آصف بيات، أستاذ علم الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط، في "جامعة إلينوي- إيربانا شامبين" الأميركية، على دراسة "اللاحركة" في كتابه "الحياة سياسة: كيف يغيّر بسطاءُ الناس الشرقَ الأوسط"، لفهم صور النضال اليومي التي تتم بشكل فردي لكنها تتحوّل إلى سلوك جمعي يجمع بينها أنها تتجه إلى استهلاك كل ما هو عام، وحضورها المادي الذي يخلق صراعاً بين الفرد والدولة في أكثر من بلدٍ عربي وإسلامي.

يقدّم الكِتاب، الذي ترجمه إلى العربية أحمد زايد وصدر عن "المركز القومي للترجمة" في القاهرة، شرحاً لأوضاع فئات مهمشّة عديدة في مصر وسورية وإيران وتركيا وغيرها، ويحلّل عوامل اقتصادية واجتماعية أدّت إلى إفقارها وتهميشها غير محتكم لكثير من الأفكار المسبقة.

يدرس بيات مفهوم اللاحركات الاجتماعية التي تتوجّه بالفعل وليس بالأيديولوجيا، ويكون انتشارها هادئاً ما دامت لا تزال في طور تعبيرها عن مطالب فردية، لكنها حين تنحو للمطالبة بمصالح جماعية، فإنها لا تأبه بعقاب السلطة لكنها لا تمارس ضغطاً منظّماً عليها، خلافاً للحركات الاجتماعية (أحزاب ونقابات)، وهي تتحرّك بطبيعة الحال ضمن الممارسات العادية للحياة اليومية، مثل تشييد أبنية والحصول على الماء والكهرباء بطريقة مخالفة للقوانين، لا بالاعتماد على اجتماعات وتظاهرات وبيانات، كما أن قوة هذه اللاحركات تُستمدّ من أعدادها الكبيرة لا وحدتها التنظيمية.

يعتقد الكاتب أن التحوّل من أنظمة ريعية إلى اقتصاديات السوق منذ تسعينيات القرن الماضي في البلدان العربية قاد إلى ظهور الجماعات المهمّشة وغير المنظّمة، ويستعرض الثغرات في دراسات تناولت "فقراء الحضر"، من اعتقاد مسبق بأنّهم يشكّلون عقبة أمام التحديث، وفي أفضل الأحوال فإنها تتعاطف معهم متجاهلةً تطوير ثقافة الفقر لنموذج مقاومة يتخذ أسلوباً خاصاً للمشاركة السياسية.

المؤشرات الأوليّة لحضور المهاجرين من الأرياف تكشفها تقديرات لإنتاجهم الاقتصادي غير المنظّم والمقونن الذي يقدّر بمليارات الدولارات، بحسب الكتاب، سواء لباعة متجوّلين وعاملين في توفير أمكنة لاصطفاف السيارات في الشوارع، أو في بيع أقراص مدمجة وكتبٍ "مزوّرة" غير خاضعة لحقوق الملكية الفكرية، ويضاف إليهم أعداد كبيرة من موظفي القطاع العام مثل المعلمين الذين يعلّمون "دروساً خصوصية"، أو المحامين الذين يعرضون خدماتهم أمام المحاكم لعدم امتلاكهم مكاتب خاصة بهم.

لم تكن الحركات الإسلامية بعيدة عن هذه التغيّرات التي حدثت في العقدين الماضيين، وفق الكاتب، حيث شكّلت الجمعيات الخيرية التابعة إليها أكثر من نصف منظّمات الرعاية الاجتماعية في مصر نهاية التسعينيات، وتجاوز عدد المستفيدين من خدماتها 15 مليون مواطن، وتتشابه الحالة بنسب متفاوتة في الأردن والمغرب ولبنان وتركيا. 

لا يميل المؤلف إلى تعظيم الارتباط بين صعود الإسلاميين وبين وجود بيئة مهيأة له، وهي العشوائيات وأحزمة الفقر، ويجد أنها علاقة تبادل منافع مؤقت بينهما، إذ إن التغيّرات قد أنتجت نمطاً مكانياً معقداً، إذ اكتسبت الأرياف بعض صفات الحياة الحضرية أيضاً، ناهيك عن دراسات حديثة بدأت تعدّل من النظرة الشائعة عن الأحياء الفقيرة في المدن، فلا وجود لمعدلات مرتفعة للجريمة والتفكّك الأسري مقارنة بغيرها كما افترض البعض، إلى جانب أن غاية هذه الفئات ليست مؤدلجة بقدر ما هي منصبّة على تدبير شؤون الحياة وقد تتقاطع في مرحلة مع أهداف تيارات دينية.

يدين بيات ما يطلق عليه "استثناء الشرق الأوسط" من التغيير؛ المقولة التي تتبناها أوساط أكاديمية وسياسية غربية لتبرير التدخلات الخارجية المستمرة في المنطقة بذريعة دمقرطتها والدفاع عن حقوق الإنسان، مؤكداً أنّ نخباً عربية تستبطن هذه التصوّرات عن مجتمعاتها، لذا فإنها تؤطر حركة الشارع العربي بصورة سلبية وتسبغ عليه أحكاماً جاهزةً بغية التقليل من دينامياته المختلفة بالضرورة عن مجتمعات توصف بـ"المتقدّمة".

ينجح آصف بيات إلى حد ما في فهم قانون "اللاحركات الاجتماعية" وأنماط حركتها، وفي توضيح منطق احتجاجها الذي يتجاوز فكرة "صراع البقاء" إلى مواجهة الاستبداد السياسي والهيمنة الثقافية والاجتماعية، لكنه لم يستطع أن يحدّد آليات متوقعة في تأثيرها في الانتفاضات العربية، واستسلم في استقراء حضورها إلى أفعالٍ طافية على السطح لا تخرج عن اهتمامات الصحافة.
____________

عملية الزحف الهادئ
يستعرض بيات قطاعات لا تبدي مشاركة سياسية، غير أنّها تقوم بما يسميها "عملية الزحف الهادئ"، والتي كلمّا تقدّمت بهدوء وبشكل فردي وتدريجي، اتخذ دفاعها عن هذه المكاسب شكلاً جمعياً مسموعاً، ضمن هدفين أساسيّين؛ إعادة توزيع الثروات والفرص والحيّز العام، وتحقيق الاستقلالية على المستويين الثقافي والسياسي عن النظام المفروض من قِبل الدولة، وذلك ما يفسّر نزوعهم نحو حلّ الخلافات بينهم دون اللجوء إلى القانون.

المساهمون