الكتابة بعد كورونا: نظرات من المغرب

15 يونيو 2020
أحمد الشرقاوي/ المغرب
+ الخط -

لم يكن من الممكن أن يغمض الأدبُ عينيه عن الواقع الذي فرضته جائحة كورونا على العالم. وإذا كان من باب الاستعجال القولُ بأن للوباء أثر عميق في الأدب، أبعد من تناوله كطارئ غيّر مسارات حياة الناس، ومنهم الكتّاب، فإن هذا الوضع الجديد يعيدنا إلى التفكير في وظيفة الأدب بشكل عام في مجتمعاتنا الحديثة.

في محاولة لفهم هذا الواقع وانعكاسات تحوّلاته في الأدب، توجّهت "العربي الجديد" إلى مثقفين مغاربة لاستشراف ما بعد كورونا؛ أي دور سيلعبه الأدب؟ وكيف ستكون علاقته مع المجتمع والعلم وقطاعات الثقافة الأخرى؟


كمال عبد اللطيف
يرى الباحث المغربي كمال عبد اللطيف أننا ننتظر في المستقبل "سرديات كورونا"، موضحاً ذلك "بأن الأدب في مختلف تجلياته، يُعَدُّ مجالاً لبناء عوالم ترتبط بالحياة وتعلو عليها في الآن نفسه، ولأن تعبيراته المتنوعة تملأ حياتنا بالنصوص التي تضاهي فِتْنَتُهَا فِتْنَتَنَا بالوقائع والأحداث في تنوعها، فإننا نحب الحياة ونعشق الأدب وباقي الفنون..".

يضيف صاحب كتاب "أسئلة الحداثة في الفكر العربي": "نُعايِن اليوم الآثار التي ترتبت عن انتشار وباء كورونا بيننا.. وباء لم يكن ينتظره أحد، وباء يُشبه ولا يُشبه في الوقت نفسه، أوبئة حصلت قبله.. اختار البشر مواجهة كورونا بالحجر والعزل للحد من جبروتها وأشكال فتكها بالأرواح. وتعني أفعال الحجر والعزل تغيير وتعديل إيقاع نظام الحياة والعمل والإنتاج، ولهذه الخيارات الوقائية آثار قوية في نظام الحياة ودورة الإنتاج ومستقبل البشر.."

وعن وظيفة الأدب المستقبلية، يقول الباحث المغربي في حديثه إلى "العربي الجديد": "بدرجات من التفاوت، وبعلامات موحدة من الفزع المُعلن أو المسكوت عنه يرسم زمن كورونا علامات جديدة في نمط حياتنا، ونتصوَّر أنه سيخلِّف دون شك جملة من الآثار التي لا نستطيع اليوم تبيّن ملامحها بوضوح. لقد طرحت الجائحة على الإنسانية أسئلة متشابهة حول درجات هشاشتها، حول قدرتها على تدبير مصيرها المشترك. كما طرحت أسئلة ذات طبيعة سياسية واجتماعية واقتصادية".

ويضيف: "في السياق نفسه، طرحت الجائحة أسئلة حول العلم وحول المستقبل، وأسئلة حول مختلف ما يرتبط بها حيث نواجه أسئلة أخرى عن الحب والجمال والموت والحياة، وهذه الأسئلة مجتمعة كما نتصوَّر هي روح الفكر والعلم والأدب.. روح الوعي المكلوم الذي ينشأ اليوم بيننا، روح الوعي المتفائل الذي يدفعنا إلى الغناء في قلب التراجيديا.. إننا ننتظر ما ستنتجه الجائحة اليوم، من حكمة ومن ملاحم تغذي وجداننا، وتحفّز عقولنا على البحث عن المخارج المناسبة وبأقل الخسائر والأضرار..".

وحول واقعه اليومي مع الجائحة، يقول عبد اللطيف: "أحلم وأنا أقرأ وأكتب كما تعودت قبل كورونا، أواصل الحلم بزمن تتحوّل فيه أحداثها وتداعياتها إلى أثر بعد عين، أحلم بالغناء والبكاء.. أتغنَّى بأدوار العلوم الطبية في الانتصار على كثير من عللنا.. وأُعَايِن وسط مجتمعات الحجر والعزل والموت مثل فصول روايات تروي سرديات الجائحة، كما أُعايِن في مقاطع كثيرة من النصوص التي تَكْتُب اليوم قساوة الأوبئة وما تلحقه بنا من أوجاع. فلننخرط جميعاً مسلحين بالتفاؤل والأمل، ولنضع باقات ورد ملوَّنة فوق مقابر ضحايانا في كل مكان دون أن نتوقف عن الكتابة والحب والغناء..".


نادية العشيري
ترى الباحثة الأكاديمية نادية العشيري أن "وباء كورونا قد جعل الإنسان يدرك حجم ضعفه وهشاشته، فقد تبيّن بالملموس أن الإنسان كان واهماً عندما اعتقد امتلاكه المعرفة وتحكم في التكنولوجيا ودجج نفسه بالأسلحة بمختلف أنواعها، حتى إذا ظن أنه ملك الكون، فاجأه فيروس لا يُرى بالعين المجردة وأجبره على إعادة النظر في أشياء كانت تعدّ بالأمس فقط يقينيات وبديهيات. إنها قصة النمرود بصيغة جديدة. مرة أخرى تتهاوى كل الأصنام التي صنعها الإنسان بيده، ليجد نفسه ضعيفاً وفي حاجة إلى ترميم الذات، مما يفرض التأمل وإنتاج أدب يليق بحجم المأساة الجماعية التي نعيشها اليوم، وهذا يتطلب لطبع بعض الوقت لاستيعاب ما يحدث".

تعتبر العشيري أن "دور الأدب ووظيفته سيتغيران، فبعد أن ظن الكثيرون أنه لم يعد هناك وقت لقراءة روايات كبيرة الحجم ولا حتى قصيدة طويلة، أصبح الوقت فجأة متوفراً، وعاد الناس إلى ما يمتلكونه من كتب لقراءتها على الورق، وعَوّضت الرحلة إلى العوالم الداخلية الرحلات التي كان الإنسان يقوم بها إلى الخارج، وعاد قرّاء الأدب إلى قراءة الروائع التي كتبت في أوقات عصيبة نتيجة حروب أو كوارث طبيعية أو جوائح وأوبئة".

تضيف في حديثها إلى "العربي الجديد": "هذا التناص بين ما يحكيه كتّاب كبار في رواياتهم -مثل "الحب في زمن الكوليرا" لـ ماركيز أو االطاعون" لألبير كامو- وبين واقعنا اليوم لفت الانتباه إلى أن ما نعيشه الآن لا يحدث لأول مرة، بل سبق أن عاشه الناس في زمن ما، لكن الجميل هو ما أعقبه من إبداعات تذكّر الإنسان بالجوهر دائماً وبكيفية تجاوز المحن. وسيظل الأدب من هذه الناحية بلسماً للأرواح المعذبة وجناح من لا جناح له للتحليق بعيداً".

ومن جنب آخر، تشير العشيري: "ثمة خاصية تلفت النظر في ما يحدث تتمثل في كون الوباء كان شاملا حيث مسّ العالم بأسره، الشيء الذي دفع الكثيرين إلى التفكير في كتابة أشكال إبداعية مشتركة بين قصص وروايات وقصائد شعرية، فيكتب جزءاً منها كاتب من أميركا الجنوبية ويضيف عليها آخر من شمال أفريقيا أو من منطقة أخرى من العالم، وقد نجد أكث قريباً من كتاب يضم قصائد في هذا الموضوع – وباء كورونا وتداعياته - لشعراء من مختلف أصقاع العالم".

ترى العشيري أن "هناك شعوراً بالحاجة إلى إنتاج أعمال مشتركة ما دامت المعاناة كونية. وسيكون للنقد كلمته لاحقاً في تحليل كيفية التعاطي مع نفس الموضوع في علاقة بالقالب الأدبي الذي صُبّ فيه الإبداع وتبعاً أيضا لخصوصية القلم الذي أبدع.. ما نستطيع تسجيله حالياً وما يبدو بشكل جليّ هو هذا الميل إلى كتابة إبداعات مشتركة تتجاوز البلد الواحد، بل وتمحو المسافات بين القارات. إبداعات تسافر عن طريق الوسائل التكنولوجية الحديثة دون حاجة إلى جواز سفر أو تأشيرة أو شيء من هذا القبيل، إبداعات تظهر أهمية القيم الإنسانية المشتركة وتجبر الإنسان على إعادة النظر في ذاته وفي العالم وفي علاقاته ببني جنسه وبسائر المخلوقات".


مبارك وساط
لا يعتقد المترجم مبارك وساط أن "تصوّراتنا عن الأدب يمكن أن تتغيّر بسبب جائحة كورونا، لأنها كارثة حلّت بالبشر بعد كوارث كثيرة عاشها الناس، كأفراد وكجماعات، لا تقلّ مأساوية بالنسبة لمن يتذوّق مرارتها عن كورونا".

يقول في حديثه إلى "العربي الجديد": "الإنسان الذي يَحجر نفسه في بيته بسبب حرب دائرة في بلده (وما أكثر مثل هذا في زماننا)، والذي يتوجّس من سقوط قنبلة تحوّله هو وعائلته وبيته إلى شظايا، قد يكون في حال أسوأ من الذي يحجر نفسه بسبب كورونا... كورونا آفة، وهنالك آفات عاشها ويعيشها أناس في مناطق مختلفة من العالم، ليستْ أهون من كورونا".

رغم ذلك، يعتبر مترجم رواية "التحوّل" لفرانز كافكا "أن تجربة الحجر والخوف وحضور شبح الموت، التي يمرّ بها الناس حالياً ستؤدّي، في حدّ ذاتها، بممارسي الأدب إلى إعادة نظر جذرية في الأدب ووظيفته...".


محمد بوجبيري
يرى الباحث والشاعر محمد بوجبيري أن "كل إنسان على هذه الأرض بعد جائحة كرونا سيتنفس الصعداء، لأنه لم يُصب بأذى، وأنه مع من يحب من الأهل والأحباب لم يطرق بابهم هذا الوحش اللامرئي. ومهما يكن، فهذا الوباء استشرى، وعاث فساداً في الأرواح، خاصة في الدول المتقدمة في أوروبا وأميركا الشمالية، ولا شك أن قادة بعض هذه البلدان سيكون لهم حساب عسير مع شعوبهم، لأنهم آثروا المصالح الاقتصادية على سلامة المواطنين. كما أن الأرض مدينة له بعد أن استعادت عافيتها بدءاً من شقائق النعمان في الحقول والبساتين، وانتهاء بطبقة الأوزون في أعالي الغلاف الجوي".

يضيف بوجبيري: "من تجليات زمن ما بعد مرض كوفيد-19 ضرورة إعادة النظر في رؤيتنا للعالم، وعلى كل شاعر أو كاتب أن يغيّر لون حبره كي يناسب المستجدّ في أحوال النفس التي انتابها الحزن المرير، وهي لا ترى ولا تسمع إلا ما يهدّها من المآسي والفواجع، ومن ثَم فإن من وظائف الأدب أن يؤرّخ بطريقته لهذه اللحظة القاسية في تاريخ الإنسانية..".

لذلك يرى بوجبيري، أن "ثمة أدبٌ جديد سيظهر ويسجل ما ستعرفه البشرية من تغيرات اقتصادية واجتماعية وأخلاقية بفعل الآثار السلبية لهذه الجائحة...".


رشيد منسوم
يقول المترجم والشاعر رشيد منسوم: "إن الأدب كان على مر العصور مرآة تعكس الحياة الروحية والفكرية للإنسان، مستودعاً لهشاشته وأحلامه، حاضناً لأسئلته العميقة حول الذات والعالم والمصير. فإذا كان الأدب السومري منشغلاً بحكايات أسطورية وملاحم شعرية وترنيمات مقدسة وأغاني الحب والمراثي الجنائزية والشكوى من الفواجع والكوارث فإن الأدب المصري القديم كان مهووساً بسؤال الموت ومصير الموتى، أما الأدب اليوناني فقد كان مشدوداً إلى الحب وإلى الحرب، وفي القرون الوسطى كان الإبداع الأدبي قابعاً في دهاليز الخرافة والشعوذة والأوبئة جاعلاً من الكنيسة المقصلة والنجاة في نفس الان. لكن مع عصر النهضة وما رافقها من انتصار لقيم العقل والتنوير شهد الأدب انعطافة جديدة جعلت الحرية والعدالة أفقاً للكتابة حيث احتفت مختلف الأجناس الأدبية ببزوغ الإنسان كتجل إيبستيمي باعتباره ذات مفكرة وموضوع رغبة. وقد شكّل ظهور هذا الكائن في الأدب والحياة قطيعة مع ثيمتين أساسيتين هما إله والطبيعة اللتان استحوذتا على معظم الفنون لقرون".

أما بخصوص العصر الحديث، فيرى منسوم أنه "يمكننا التمييز بين مرحلتين أساسيتين؛ في الأولى كان الإنسان يشكّل مرجعاً بكل أبعاده القيمية والوجودية والتاريخية. فقد كان بمثابة مركز الكون، خصوصاً بعد ظهور الرواية. لكن وبعد الحرب العالمية الثانية وبعد تنامي النزعة العدمية، أصبح الأدب مع الرواية الجديدة يحتفي بالأشياء بدل الإنسان".

بالنسبة لمنسوم، فإن سؤال "ما مصير الأدب بعد جائحة كورونا؟" سؤال جوهري خصوصاً بعد الرجة التي أحدثتها لتصوّراتنا عن الذات والعالم؟ يقول: "إن الأدب بعد هذه الحرب العالمية "الثالثة" سيعرف تحوّلاً عميقاً سيتجلى أساساً في، ثلاثة مرتكزات هي: أولاً، مفهوم البطولة بحيث سيحتفي الأدب بأناس بسطاء في مواجهة طاحونة الحياة. ثانياً، الفضاء الملّيمتري، فقد أفرزت فترة الحجر الصحي وما رافقها إعادة لتصوّرنا للبيت سواء المادي أو الرمزي وللكوكب وللشارع، وللفضاء الأزرق وللتباعد الاجتماعي والنوافذ ولعلاقتنا مع العام والخاص وأدوات التعقب الالكتروني. ثالثاً، مفهوم الغيرية، سيصبح الآخر شيئاً لامرئياً كالفيروس مثلاً".

يضيف: "لقد خدعتنا الآداب عموماً وأدب الولايات المتحدة على نحو خاص حين كرّس مفهوم الغير في كائنات خارجية ذات إمكانيات لامحدودة وذكاء خارق وجعلت من أفلام هوليوود وتجارة السلاح أحصنة طروادة لغزو مخيلاتنا. وتلك منتهى المفارقة، جائحة كورونا ستبدأ -وقد بدأت فعلاً- بتهشيم أسطورة اقتصاد الخوف والمنقذ المنتظر ستهدم ذلك الوهم الذي حاولت العولمة أن تسوقه بعدما نمنا مع القطيع واستيقظنا مع الذئاب...".

المساهمون