حكيم حرب: أوديب في المقهى

20 مارس 2017
(من العرض، تصوير: عيسى أبو عثمان)
+ الخط -

بعد أكثر من ربع قرن على مغامرته الأولى مع مسرح المقهى، يعود المخرج الأردني حكيم حرب (1966) مع عرضه الجديد "ليلة سقوط طيبة" إلى المقهى، الذي جعل منه حاضناً لتقويض الجدار الفاصل بين المسرح والجمهور، ومنطلقاً للنهوض بمسرحٍ تفاعلي مغامر في اشتباكه مع الناس في أماكن وجودهم.

عودة المخرج والممثل حرب الذي سبق له إدارة مهرجان المسرح الأردني، ومسرح الشباب، ومسرح الطفل، إلى مسرح المقهى مجدداً، تُعدّ وصلاً لتجربته المسرحية التي بدأها وانقطع عنها في مقاهي عمّان وشوارعها وساحاتها العامة، قبل نحو ربع قرن، حين أسّس فرقة "مختبر الرحالة المسرحي" مع فنانين أردنيين كُثر وجدوا في مقهى "الفينيق" الثقافي آنذاك، محطتهم الأولى التي انطلقوا منها خارج صالات العرض المغلقة، ليجوبوا بعدها المقاهي والشوارع في العاصمة والمحافظات الأردنية.

إصراره المتواصل على تفعيل دور المسرح في محيطه الاجتماعي، وإيجاد مخرج لانحسار علاقته مع الجمهور داخل إطار النخبة والمهرجانات الموسمية؛ دفع حرب الذي عُرف بأعماله المسرحية التجريبية المغايرة لمألوف المشهد الأردني، إلى إعادة إحياء مشروعه القديم المتجدّد مع "ليلة سقوط طيبة" التي تُواصل عروضها الدورية مساء كل أربعاء في مقهى "أوتاد" الثقافي في جبل اللويبدة.

المسرحية التي تعود إلى الإغريقي سوفوكليس قبل نحو 2500 عام، تخلّصت في حلّتها الجديدة من شكلها ومحتواها الكلاسيكيين؛ إذ قام المخرج الذي سبق له أن قدّم العديد من الأعمال المسرحية الكلاسيكية ضمن منظورٍ معاصرٍ وثيق الصلة بتراجيديات المشهد العربي، بإعادة تأليف المسرحية من جديد، فوضع احتمالات مغايرة لمجرى سياقات أحداثها ومشاهدها التي تحركت بين رواد المقهى وبمشاركتهم، ضمن إطار "الكوميديا السوداء" وعلى طريقةٍ أقرب إلى "الكباريه السياسي".

لم يتوقف مخرج المسرحية في إنتاجها الجديد، عند تحريرها من شكلها القديم فحسب، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حين جعل من "ليلة سقوط طيبة" المتحدّرة من أسطورة "أوديب" مرويّة مسرحية تفاعلية، ومفتوحة على تباين مستويات التلقّي لدى رواد المقهى؛ إذ جعل منها مزيجاً مركباً بين مسرح الحكواتي، ومسرح بريشت؛ الانفعال والتشويق المصاحب للحكواتي، وهدم "الجدار الرابع" عند بريشت، من خلال مشاركة روّاد المقهى في العمل المسرحي.

الإسقاطات التي سحبها حرب من منبتها القديم في التراجيديا الإغريقية، إلى موطنها الجديد في راهنها العربي، تجلّت في تقويض كل ما أشيع عن قتل أوديب لأبيه وزواجه من أمه؛ كل ما في الأمر، أن هناك مؤامرة قامت بها المؤسسة العسكرية بقيادة "كريون" والمؤسسة الدينية بقيادة الكاهن "تريزياس" بهدف الإطاحة بنظام أوديب واحتلال عرشه وتشويه صورته أمام الشعب. ولا يتوانى "كريون" في واحدةٍ من التقمّصات العربية الراهنة، عن تهديد شعبه، إن لم يصطفوا معه في الحفاظ على عرشه، بإبادة كل شيء "يا شعب طيبة العظيم، قاتلوا معي ضدّ العصابات القادمة من الخارج. قاتلوا معي، أو سأحرق طيبة وأبيدها عن بكرة أبيها".

تدخّل رواد المقهى في سير أحداث المسرحية، ومحاولة تغيير بعض مساراتها التي رسمها مخرجها وممثل شخصيتها الرئيسية "كريون" حكيم حرب نفسه، جاء بفعل السياق التفاعلي الذي حمله النص والأداء التفاعليان للمسرحية.

لم يغرق الجمهور في سبات الإيهام الرومانسي الذي عادةً ما تخلّقه عناصر العرض المسرحي من إضاءة، وموسيقى، وأزياء، وديكور ومكياج، والتي جاءت متقشّفة ومكشوفة وغير مكتملة، بوصفها عناصر طبيعية من مؤثثات المقهى. وهو ما ساهم في تحويل جمهور المسرحية إلى شريك فاعل في العرض؛ يقكّر ويتدخّل ويشارك ويحتج ويغيّر، بدلاً من استسلامه إلى الوهم الذي ينشد التطهير العاطفي الذي يعزّزه النمط التقليدي للدراما المسرحية والتلفزيونية والسينمائية العربية، وهو ما يجعل من الدراما، بحسب مخرج المسرحية "أداة لتخدير الجمهور وإبعاده عن قضاياه الجوهرية والمصيرية، ومنعه من تطوير قدراته الذهنية والتحليلية".

المسرح إيقاظ للعقل، وليس مخدراً له، يقول حرب لـ "العربي الجديد" رائياً أن المسرح ليس أفيوناً، بل منارة نهضة وحضارة، وعلى المسرح أن لا ينشغل في إغراق المتلقي بوهم الحكايا، بقدر ما عليه أن يتعمد إيقاظ الجمهور من غفوته كلما شعر باستغراقه العاطفي الواهم: "ليس المهم أن نقنع المتلقي بأن ما يراه هو الحقيقة، ولا أن ندفعه للبكاء والضحك، هذا سهلٌ وساذجٌ. والأهم هو أن نثير التفكير داخل العقول، وهذا هو الهدف الأسمى للمسرح".

العودة إلى "مسرح المقهى" انطلقت عند حرب الذي عمل مختبره المسرحي الجوال، أيضاً، في العديد من السجون الأردنية بهدف أنسنة العقوبة الواقعة على النزلاء، من مغامرة التجريب التي تُفضي عنده إلى اقتحام المجهول في ساحات العالم وملاعبه، "العالم الذي يمثل لنا ميدان إثارة في صراع الإنسان مع حقيقته، ومحاولته المستمرة لنزع القناع عن وجه الحياة". من هنا بدأت فكرة إحياء مشروعه المسرحي، خاصة مع مآلات حال المسرح العربي اليوم، في محاولةٍ منه لتحريك بحيرته الراكدة، وتقويض الجدار الذي يفصله عن الجمهور.


المساهمون