موسم ورق العنب

موسم ورق العنب

26 أكتوبر 2018
عمل لـ بطرس المعرّي (2013)
+ الخط -

لامني أحد القرّاء على أنني جعلت بعض الشخصيات في روايتي "أرض الكلام" تأكل ورق العنب مع الرز في تشرين، وهي طبخة "اليَبْرق" المعروفة جيدا في بلاد الشام كافة، وغالبا ما يلف الرز المخلوط باللحم الناعم بورق العنب المسلوق، أو تلف خلطة من الرز والتوابل والبندورة بورق العنب وتسمى حينئذ "يالنجي".

وفي كل الأحوال فإن ورق العنب هو المادة الرئيسية التي لولاها لما كانت أي طبخة من هاتين موجودة، ولهذا فإن الناس تعلموا أن يحتفظوا بورق العنب للمواسم التي لا يتوفر فيها، وذلك بوضعه في أوان زجاجية بحيث لا يتخلل الهواء بين الورقة والأخرى، وإغلاق الآنية إغلاقا محكما إلى الشتاء. وبهذا يمكن تناول اليبرق أو اليالنجي في البيوت والمطاعم الشامية في أوقات مختلفة من العام، لا في تشرين وحده، وهو شهر قريب من وجود العنب مخضرا. ولهذا ربما كان ورق العنب علامة محلية تؤكد العلاقة الوثيقة بين البشر والبيئة، وسجلا لقدرة البشر على تحويل ثمار الواقع إلى فوائد غير موسمية.

المهم أن القارئ بدا غاضبا من الخطأ الفادح و"غير الواقعي" الذي ارتكبه الروائي، وهي قراءة تفترض أن الرواية تنسخ الواقع وتعيد إنتاج صورة فوتوغرافية عنه، وأن أي مخالفة لما يعرفه القارئ عن الواقع تعتبر خرقا للحقيقة، وابتعادا عن الصدق. المفارقة هنا أن ما يزعم أنه الواقع والحقائق، ليس سوى "معرفة" يومية مباشرة ومعلومات ضحلة لا تتعدى مساحة جغرافية صغيرة.

غير أن تاريخ الرواية يثبت أنها قد اخترقت على الدوام منطق المعرفة اليومية، وأنها تمكنت من تجاوز الواقع العادي، والمعرفة اليومية، كي تبتكر مقترحات جديدة لا تشبهها.

السؤال هو: هل على الروائي أن يستفسر دائما عن موسم ورق العنب كي يسمح لشخصياته بتناول اليبرق في الرواية؟ الجواب هو لا. ليس لأن الواقع يسمح بغير ذلك، وهو في الحقيقة يقدم مثل هذا السماح، بل لأنه يسمح للبشر، وللروائيين أيضا، بابتكار آلاف الطرق لاستثمار مقترحاته اللانهائية التي تؤكد استمراره وتجدده، بدلا من أن ترسخ الثابت فيه، كما أن الرواية تقدم قدرات لا محدودة في ابتكارات المخيلة، بدلا من أن يقتصر دورها على استعارة الوقائع من المرجع.

لكن هل يستطيع الروائي أن يبتكر مطبخا خاصا به على غرار ابتكاره للمكان والشخصيات والأحداث أم لا؟ وإذا كان سيفعل ذلك، فإن شروط الرواية المتعلقة بالإقناع والترابط بين المكونات يجب أن تتوفر للوجبة التي يعدها، مثلما توفر الإقناع للبناء الفني كله.

لا يعمل اليومي مرجعا للروائي، ولكن الروائي يعيد استخدام اليومي والخاص والمحلّي بما يتوافق مع حياة الشخصيات ونمط العيش الذي يختاره لها، دون أن يقفز بالطبع فوق الحقائق الحياتية، فليس بوسع الشخصيات في بلاد الشام أن تتناول السوشي الياباني بوصفه أكلة من السويداء، ولا يستطيع الروائي أن يزعم أن الشخصيات التي تعيش في الصحراء الكبرى تتغذى على ورق العنب المخزن في بلاد الشام.

دلالات

المساهمون