لَوْ أنّه يُراقصها

15 ديسمبر 2014
... لكنها تخاف أن يتوقف عن استنشاق عطرها (Getty)
+ الخط -

تلكَ الليلة، حين عادت إلى البيت، كانت تشمّ رائحتها في كلّ مكان. رائحتها وليس عطرها. لم تفهم. كان يجلس على الكنبة المخملية الداكنة التي لا تطيقها. من مكانه، ينظر إليها بتأنٍّ ويراقب دهشتها هذه من دون أن يبدي أية ردة فعل. ظلّ يستحضر رائحتها طوال اليوم حتى عبقت في المكان. خاف أن تكتشف ضعفه فأزاح عينيه عنها. نادراً ما كانت تشمّ ثيابها. لا تحبّ هذا الاختلاط بين رائحة الجسد والعطر، ذاك الذي تُكثر منه على جسمها ظناً منها أنها تخفي بذلك رائحتها. ولا تعرف السبب. ربما هو الخوف من التعلّق.

مساء كلّ يوم، بعدما تنهي والدتها أعمالها المنزلية، كانت ترش العطر على جسدها. تذكر أن الرائحة المختلطة كانت تفوح في كلّ أرجاء البيت. لطالما كرهتها بسبب سيطرتها عليها. لا تريد أن تحضر أمها في كافة زوايا المنزل، في غرفتها وعلى سريرها. يزعجها أكثر أنها كلّما ابتعدت عنها والدتها، كانت تفتح خزانتها لتشم ثيابها. لم تعتادا التكلّم كثيراً. تعرف فقط أنها كانت تتحاشى أي لقاء عاطفي معها، وتكتفي بشم ثيابها. كان ذلك يمدّها بالحنان.

هو كان يحب رائحتها. يستحضرها كلّما همّت بالمغادرة. لم تكن تطيل الغياب. لا تعرف لماذا تذهب ولا تعرف لماذا تعود. لا يتعلق الأمر بمساحة خاصة. لكنها تثق بنقطة الصفر أكثر من أي شيء. هي انطلاقة وليست "عودة". يشتاق إليها فيتنشّق الوسادة التي تنام عليها. يغفو على رائحتها بينما هي تائهة في البحث عن البداية. تعرف مدى تأثير رائحتها عليه. لم يكن ذلك ليسعدها. كانت تخشى عليه منها. لا تحب السيطرة، حتى سيطرتها هي.

اعترفت له بكل ما يجول في خاطرها. علاقتها غير المفهومة بالرائحة. ضحك كثيراً فاضطربت. تكره استخفافه بأفكارها ومشاعرها مهما بدت غير منطقية. عليه أن يفهمها كما يشمّ الوسادة حين تختفي. أخبرها أنه يكره مزاجيتها بقدر ما تكره رائحتها. تعب من الأحداث في حياته. يتوق إلى يومٍ تافهٍ لا حدث فيه. كأن ينام طيلة النهار. أو يشاهد أفلام الكوميديا التي لا تحبها. يستيقظ ويتناول فطوره ويذهب إلى العمل ويعود مساء وقد حضرت لهما عشاء خفيفاً. يأكلانه سوياً ويشاهدان نشرة الأخبار. ثم يعانقها وينامان.

لا مانع لديها من أيام كهذه. لكنها تحبّ الأحداث. أن يُحدّق إليها طوال يومٍ كامل. أو يقرّر رسمها حتى لو لم يمسك الريشة يوماً. أو يراقصها ولو تعثّر مرة أو اثنتين أو ثلاثة، قبل أن يعودا معاً إلى اليوم التافه. ربما ستذهب مرة أخرى، أو أكثر. لكنها تخاف أن يتوقف عن استنشاق عطرها.​
دلالات
المساهمون