الطيور والقمامة

23 يونيو 2019
لقالق عدلت عن الهجرة... والسبب تلك النفايات (Getty)
+ الخط -

هجرة الطيور لها أسبابها ومواعيدها وطرقها ووجهاتها، وهي تحدث مرّتَين في العام الواحد. أمّا السبب الرئيسي لها فهو من دون شكّ الغذاء والتكاثر. فالطيور تهاجر من مواقع تفريخها، عندما تشعر بأنّ البرد مقبل وأنّ الثلوج سوف تغطّي الأرض التي تبحث فيها عن طعام. في الخريف، تنطلق من الشمال وتتّجه إلى المناطق الجنوبية في آسيا والأميركيتَين ومن أوراسيا إلى أفريقيا، حيث تمضي شتاءً معتدلاً أو دافئاً وحيث تتوفّر الحشرات والحبوب والفئران والسحالي. وفي الربيع، تتّجه شمالاً بدافع من هورموناتها التي تنضج مع زيادة طول النهار، ففي الشمال تطول مدّة النهار، الأمر الذي يكفي لنشاط الغدّة النخامية التي تنشّط بدورها الغدد الجنسية فتتكاثر.

هذا ما كنّا نعرفه حتى وقت قريب. لكن ماذا يحدث في هذه الأيام؟ لا يخفى على أحد أنّ الطيور بدأت منذ عقدَين أو أكثر تتأثر بالقمامة أو مكبّات النفايات، وفي الوقت نفسه تتأثر بتغيّر المناخ. لقد ذكرنا أنّ الغذاء هو المحرّك الأساسي للهجرة الخريفية وطول مدّة النهار في الهجرة الربيعية، فيفترض ألا تهاجر الطيور ما دام الغذاء متوفّراً وطول النهار ما زال كافياً. لكنّ الصيادين في لبنان وفي بعض الدول المجاورة استغربوا كيف أنّ أعداد طائر الصلنج صارت قليلة في الخريف، فعزا بعضهم ذلك إلى صيدها أو تسميمها بالمبيدات في تركيا، إلا أن الأمر ليس كذلك. فتغيّر المناخ جعل جنوبي أوروبا أكثر دفئاً، ما دفع الطيور لتبقى في مكانها حيث لا برد يمنعها من طرائدها. فاستقرّت مستوطنة ولا تهاجر، كحال الصلنج الذي خفّت أعداده الآتية إلى الشرق الأوسط لتشتّي. ولأنّه مقيم في جنوب أوروبا، فإنّ ثمّة دولاً منعت صيد الصلنج لأنّ القانون لا يسمح إلا بصيد أنواع محددة من الطيور المهاجرة، وليس تلك المقيمة على مدار السنة.

أمّا في ما يتعلق بأكوام النفايات ومكبّاتها، فصارت هي كذلك مصدراً دائماً لغذاء الطيور، الأمر الذي جعلها تقيم مخيّمات تفريخ لها بالقرب من تلك المكبّات، حيث الوجبات السريعة والسهلة. على سبيل المثال، في خلال العقود الثلاثة الماضية، توقّف طائر اللقلق عن الهجرة من البرتغال إلى أفريقيا بسب أكوام النفايات العضوية - بقايا موائد البشر - التي توفّر له ما يريد من لحوم وأسماك وغير ذلك. وقد ازدادت أعداد اللقالق هناك، حتى وصل في الآونة الأخيرة إلى نحو 14 ألف لقلق، وما ذلك إلا بسبب الاستقرار الغذائي المؤمّن من النفايات العضوية. وبما أنّ الاتحاد الأوروبي يعمل حالياً على تدوير كل النفايات العضوية وعدم ترك المكبات مكشوفة، فإنّ الغذاء الذي توفّره المكبّات سوف يختفي تدريجياً. هل يعود اللقلق بعد اختفاء هذا النوع من الغذاء إلى عاداته الأولى المتمثلة بالهجرة إلى أفريقيا، أم أنّه سوف يبقى حيث هو ليقتات على الحشرات المتوفّرة؟ في حال تقلّص الغذاء من المكبّات، لا بدّ من أن تتقلّص أعداد اللقالق. أمّا لو عاد طائر اللقلق إلى الهجرة، فإنّ أعداده سوف تتقلّص كذلك بسبب قساوة الطريق ومفاجآته. تجدر الإشارة إلى أنّ النفايات العضوية راحت كذلك تجذب العصافير التي تأكل الذباب الذي يتكاثر في مكبّات النفايات، مثل إم سكعكع (أبو فصادة) والمويت اللذَين يستهويهما عادة الذباب وغيره من الحشرات في مرابض الماعز والأغنام.




في سياق متصل، استطاعت النفايات العضوية في الآونة الأخيرة تغيير مفهومنا للطيور الجارحة. هذه الأخيرة صارت ترتاد مكبّات النفايات المكشوفة بحثاً عن الغذاء. وبعدما كنّا نقول إنّ النسر هو ذلك الطائر الذي يعيش على أكل الجيف، صرنا نرى العقبان، التي تُعرَف بأنّها تجهز على فريستها وتأكلها طازجة، تبحث كذلك عن قطعة لحم بقر أو غنم أو ماعز أو دجاج أو سمك بين أكوام الزبالة، حالها حال النسور. ومن تأثيرات النفايات كذلك، أنّ دراسة الشوحة أو الرخمة المصرية في بعض بلدان الخليج صارت تعتمد على أماكن توزيع المكبّات في المناطق النائية. فيُقال على سبيل المثال: شاهدت سبعة طيور شوحة مصرية في المكبّ رقم ثلاثة، وعثرت على أربعة أخرى في المكبّ رقم 11. فهل صارت الشوحة شرشوحة؟

*اختصاصي في علوم الطيور البريّة
دلالات
المساهمون