فناجين صامتة في قهوة العقاقنة الجزائرية

09 مارس 2017
يكملون "حديثهم" في الخارج (العربي الجديد)
+ الخط -

يرتبط المقهى بالأصوات العالية والمتداخلة. ماذا لو أتيح لك شرب قهوتك، من دون كلمة تسمعها أو تقولها؟

إذا كنت في الجزائر العاصمة وأنت من الذين يرتبط لديهم شرب القهوة بالخلوة إلى النفس، فيغدو بالتالي كلّ حديث تشويشاً على هدوء اللحظة، ما عليك إلا التوجّه إلى "قهوة العقاقنة" في الشارع المتفرّع عن ساحة موريس أودان. هناك، لن تضطرّ إلى تحمّل ولا كلمة سماعاً، وكذلك لن تضطر إلى نطق واحدة. كلّ الأفعال والأفكار والرغبات، يكون التعبير عنها بلغة الإشارة في ذلك المقهى.

"عقاقنة" في اللهجة الجزائرية جمع لكلمة "عقّون" أي الأبكم، فيما يُسمّى الأصمّ "الأطرش". يقترب عدد هؤلاء في البلاد من 80 ألفاً، وهم يجدون مدارس تحتضنهم مع أحدث التقنيات، غير أنّهم يفتقرون إلى نوادٍ ومقاه يتمكّنون فيها من التواصل والتعبير عن انشغالاتهم وهواجسهم. من هنا، يُعدّ ذلك المقهى الذي فتح أبوابه في عام 1973 والذي يشرف عليه "اتحاد الصمّ والبكم" التابع لمحافظة الجزائر العاصمة، مكسباً يرقى إلى مرتبة البيت الثّاني. بعض من التقتهم "العربي الجديد" في المقهى، قالوا إنّ عدد الساعات التي يقضونها فيه، أكثر من تلك التي يقضونها في بيوتهم. يُذكر أنّ الفعل "قالوا" هنا يعني "أشاروا"، فلا لغة تعلو على لغة الإشارة.

من يرغب في التعرّف إلى المقهى من الداخل، صحافياً كان أم مجرّد شخص فضولي، عليه أن يجلس بداية في ركن قصي، ليمنح نفسه فسحة تمكّنه من رصد مفاتيح للتواصل. مرتادو المقهى يميلون إلى "الحديث" مع بعضهم بعضاً، أكثر من "الحديث" مع الناطقين. وذلك "ليس انغلاقاً، كما يبدو لنا، بل ممارسة لمتعة اللغة المشتركة في فضاء يرونه مملكتهم الخاصة. فاللغة هويّة لدى البشر، وعلينا الاعتراف بأنّ لا جهداً كبيراً يُبذل في الفضاء العربي العام، لتعلّم لغتهم والاقتراب من عالمهم. وهذا أمر يولّد لديهم حالة من الإحساس بالغربة يقضون عليه هنا". هذا ما يؤكّده المسرحي التونسي فارس العفيف الذي وجدناه يفكّ شيفرات المكان.

قد يضيق المقهى بمرتاديه، فيتمدّد إلى الرصيف المقابل، من دون أن يعرقل أيّ من هؤلاء ماراً أو سيّارة. وإن حدث لك ذلك، فسوف تحظى بأسرع وألطف اعتذار في الجزائر، إذ إنّ هؤلاء حريصون على أناقة اللباس والسلوك. كذلك فإنّ اعتمادهم على حاسة البصر في التقاط ملامح الأمكنة وكائناتها، يجعلهم أكثر انتباهاً لما يحيط بهم. انتباههم هو انتباه تفاعل وليس انتباه توجّس أو خوف. وإدراك ذلك يُعفيك من سوء الفهم الذي يجعلك تظنّ بأنّ وجودك مرفوض بينهم.




ويبقى هذا المقهى، إلى جانب مقاه قليلة في العاصمة الجزائرية، محتفظاً بالطاولات والكراسي التي تجاوزتها مقاهي اللحظات السريعة، نظراً إلى بعده الحميمي والعائلي. القائمون عليه لا يرون في قاصديه زبائن بل أصدقاء، وأسعار القهوة والشاي والمياه المعدنية والمشروبات الغازية والحلويات العصرية والشعبية، وكلّ ما هو متاح في المقهى، تنافس أسعار المقاهي الأخرى، بما فيها تلك الموجودة في البقعة نفسها. أمّا الكرم بين أفراد هذه الشريحة، فيأتي أكبر ممّا هو في الشرائح الأخرى، إذ يحرص كلّ واحد منهم على أن يكون هو مسدّد الفاتورة.

انعكست الروح الحميمية على طريقة تعاملهم مع بعضهم بعضاً، فالواحد منهم يسارع إلى الترحيب بصديقه أو صديقته بحرارة، ويتولّى هو نفسه إحضار الطلبية، ويتبادل معه حركات تدلّ على الحفاوة. يقول صالح الذي يدرس الترجمة في الجامعة المركزية التي تبعد عن المقهى بضع خطوات، "أفضّل أن أشرب قهوتي هنا، ليس بدافع الهروب إلى الهدوء فقط، بل لإحساسي كذلك بأنّ الصّدق في العلاقات الإنسانية أقوى في هذا المقهى، بالمقارنة مع المقاهي الأخرى". يضيف: "علينا أن نعترف بأنّ الثلج لم يعد حكراً على قمم الجبال، بل تعدّاها إلى لقاءاتنا وتجمّعاتنا وأعراسنا".

ويلفت صالح إلى أنّه بات قادراً على التفريق عفوياً ما بين الصمّ البكم وغيرهم، بمجرّد دخول الشخص المقهى. ويشرح أنّ "ذلك يظهر من خلال غرق الناطقين في الصّمت، إمّا ليحدّثوا أنفسهم أو ليتأمّلوا تصرفات شريحة يكتشفون عمقها وصدقها - فيما كانوا يعرفونها من خلال أحكام جاهزة - أو يتواصلون عبر إشارات غير محترفة". يتابع: "كما نجد ركاكة لغوية لدى الناطقين، كذلك ثمّة ركاكة في لغة الإشارة. وهو ما يُثير ضحك مرتادي المقهى من الصمّ والبكم أحياناً".

من جهته، يتمنّى العمّ سعدان حدّاد أن "أصحو صباحاً، فأجد الجزائر كلّها بكماء، على الأقل ليوم واحد. هكذا، سوف نتخلّص مؤقتاً من سماع رداءة بعض السياسيين والفنانين والمثقفين والتجار وسائقي التاكسي ورجال الدين والجامعيين والإعلاميين ومشجّعي فرق كرة القدم". يضيف: "تصوّر أن نصل إلى مرحلة نشاهد فيها مقابلة رياضية، بالطريقة التي يشاهدها بها هؤلاء"، وهو يشير إلى الصمت الذي هيمن على المقهى بالتزامن مع بثّ المباراة التي جمعت الفريق المغربي بنظيره المصري، ضمن منافسات "كأس أمم أفريقيا" في الغابون قبل فترة زمنيّة. كان يبدو صراخ "الأقلّية الناطقة" تأييداً للفريق المغربي، نشازاً وسط "الأغلبية الصامتة".