لا قضية تشغل بال المصريين هذه الأيام سوى الارتفاع المتواصل لسعر صرف الدولار أمام الجنيه، خاصة إذا ما تحدثنا عن تأثير الارتفاع على أسعار السلع والخدمات والأحوال المعيشية، أو حجم المضاربات المحمومة على الدولار، أو الهوس بالورقة الخضراء عبر قيام أناس عاديين ببيع ما لديهم من ذهب وشهادات ادخار وتسييل ودائع بالعملة المحلية وشراء عملة أميركية لتخزينها وبيعها في وقت لاحق لتحقيق أرباح طائلة.
ووسط عمليات المضاربات غير المبررة على العملة الأميركية انطلقت شائعات قوية حول اقتراب سعر الدولار الواحد من حاجز العشرة جنيهات في السوق السوداء غير الرسمية، وهو رقم إن تم فإنه يعد الأول في تاريخ البلاد، كما يحمل تأثيرات خطيرة بالنسبة للاقتصاد ومناخ الاستثمار والمواطن الذي سيعاني من موجة تضخمية ربما تكون عنيفة وتفوق كثيراً قدرته الشرائية.
الغريب أنه بدلا من أن يبحث الجميع عن حل جذري لهذا الارتفاع الخطير والمخيف للدولار حاولت بعض الأطراف الحكومية البحث عن مؤامرة أو كبش فداء لتلقي عليه مسؤولية الأزمة وبالتالي تغسل يدها منها، فمرة توجه بعض هذه الأطراف السهام للمضاربين وشركات الصرافة وتجار العملة ويقولون إن هؤلاء يتلاعبون بسوق الصرف لتحقيق مصالح شخصية رخيصة ويتجاهلون الصالح العام، وتوجه أطراف أخرى السهام للتجار والمستوردين الذين يستوردون أكلا للقطط والكلاب على حسب زعمهم، ونسي هؤلاء أن الفاتورة الأكبر من واردات مصر تذهب لاستيراد الأغذية ومواد الإنتاج الخام والسلع الوسيطة.
بل يصل الأمر ببعض الأطراف الحكومية وأوساط محسوبة على تجمعات رجال الأعمال وكبار المستثمرين إلى حد اتهام البنك المركزي بأنه يقف وراء أزمة الدولار لأنه لا يلبي احتياجات السوق من النقد الأجنبي ويمتنع عن ضخ مزيد من الدولار لزيادة العرض على حساب الطلب، ونسي هؤلاء أن البنك المركزي لا يطبع دولارات في مطابعه بشارع الهرم، ولا يصنعها من الأصل، بل هو مجرد متلقٍ لغيرادات الأنشطة الاقتصادية المختلفة، وأنه يطبق المثل الشعبي الشهير "على قد لحافك مد رجليك" أو المثل الآخر "أطبخي يا جارية..... كلف يا سيدي".
اقرأ أيضاً: الدولار يتجاهل عطاءً للمركزي المصري ويرتفع إلى 9.80 جنيهات
بل إن أحدث الافتكاسات التي حاولت إحدى الصحف الحكومية ترويجها قبل يومين هي أن جماعة الإخوان وراء الأزمة الحالية للدولار لأنهم يشترون كميات كبيرة من العملة الأميركية بأسعار عالية بغرض تعطيش سوق الصرف وإحداث نقص في الدولار، وكأن "الإخوان" في رهان مستمر مع خسارة أموالهم بشكل متعمد لأن لديهم المليارات منها، مرة يخسرونها عبر مصادراتها من قبل لجنة التحفظ بوزارة العدل، وثانية عبر شراء الدولار بسعر عالٍ وتخزينه بغرض إحراج الحكومة، وثالثة عبر شراء أسمنت وسد بلاعات الصرف الصحي لمنع تصريف مياه الأمطار بالإسكندرية.
نعود للسؤال المطروح وهو: هل أزمة الدولار العنيفة الحالية هي أزمة عارضة، بمعنى أنها ستنتهي خلال أيام وربما أشهر أو حتى قبل نهاية العام الجاري، أم أننا أمام أزمة ممتدة ستطول بعض الوقت وربما لسنوات، وبالتالي يظل المواطن والمستثمر والمدخر تحت رحمة الاضطرابات العنيفة لسوق الصرف والارتفاع المتواصل في سعر الدولار فترات طويلة؟
وحتى نجيب عن السؤال السابق لنعد لتجارب سابقة، فقد مرت مصر كثيرا بأزمات دولارية.. حدث ذلك قبل عام 1991 حيث كانت الحكومة تقترض الدولار من شركات توظيف الأموال لتشتري القمح والسكر والشاي والذرة والزيوت من الخارج، وحدث ذلك في عام 1998 عقب حادث الأقصر الشهير، والذي تم فيه مقتل عشرات السياح بجنوب البلاد، وتكررت اضطرابات الدولار عقب تفجيرات طابا وسيناء الإرهابية في عام 2004 وكذلك عقب تفجيرات شرم الشيخ في عام 2005.
لكن الأزمة الحالية تختلف عن سابقتها، فالأزمات السابقة كانت ترتبط بحدوث خلل في أحد موارد النقد الأجنبي بالبلاد، مثلا في قطاع السياحة كما حدث في الأعوام من 2002-2005، أو انسحاب استثمارات أجنبية من البلاد إبان الأزمة المالية العالمية في عام 2008، أو عقب اندلاع أزمة انهيار البورصات العربية في منتصف عام 2006، لكن الأزمة الحالية للدولار ترتبط بحدوث تراجع في كل موارد مصر الخمسة من النقد الأجنبي وليس في مورد واحد كما في السنوات الماضية.
فهناك تراجع حاد لإيرادات السياحة التي خسرت 2.3 مليار دولار منذ سقوط الطائرة الروسية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وتزداد الخسائر عقب مقتل الشاب الإيطالي ريجيني، وقبلها عانى القطاع بسبب اضطرابات أمنية ومقتل مكسيكيين في الصحراء الغربية، وهناك تراجع في عائدات الصادرات وقناة السويس والاستثمارات الأجنبية المباشرة وتحويلات المغتربين.
أزمة الدولار ليست عارضة كما يحاول بعضهم تصويرها، وليست أزمة بسيطة تستطيع الحكومة تجاهلها بوضع رأسها في الرمال، وحلها يرتبط بمدى قدرة الحكومة على إعادة الحياة لأنشطة الموارد الدولارية.
اقرأ أيضاً:
المضاربات تمتد للعملات العربية في مصر لشح الدولار
المركزي المصري يطرح نصف مليار دولار لتغطية الاستيراد