أصدرت وزارة التجارة المصرية قرارا بفرض رسوم لمكافحة الإغراق على واردات الحديد لمدة خمسة أعوام، ويعد هذا القرار دليلا كاشفا على طبيعة انحيازات السياسات الاقتصادية للحكومة، حيث سيرفع القرار أرباح منتجي الحديد، أو بمعنى أدق محتكري سوق الحديد.
بالإضافة إلى ذلك، فإن القرار يعبر عن قصور في الأداء والتصورات الاقتصادية، وضيق أفق، بحيث تتم معالجة الإغراق بفرض رسوم على الاستيراد، بدلا من أن يفكر متخذو القرار الاقتصادي في تلبية احتياجات السوق من منتجات الحديد، عبر وضع استراتيجية إنتاجية ترفع معدلات الإنتاج، وتقلل سعر الكلفة، وخاصة أنه الحل الأمثل الذي يتجاوز الاحتكار والإغراق معا.
لكن هذا الحل لا تنفذه حكومات تنصاع لمنطق الربح الاحتكاري الذي يفرضه منتجو الحديد، كما يؤشر قرار الإغراق إلى نتائج سلبية لن تتوقف وحسب على القطاعات المعتمدة على منتجات الحديد، بل ستؤثر على قطاعات استثمارية أخرى، وسيرفع القرار أسعار بعض السلع والخدمات، ما يعني تحميل هذه الأسعار إلى المستهلك النهائي.
لم يكن قرار مكافحة الإغراق الأول من نوعه حيث سبقه قراران لوزير التجارة طارق قابيل، أحدهما يقضي بفرض رسوم إغراق لمدة شهرين، وجدد القرار لأربعة أشهر انتهت أول ديسمبر/ كانون الأول، ليتم فرض رسوم إغراق لمدة خمس سنوات، في سابقة غريبة تدفع للشك في أسباب اتخاذ القرار الذي أعلن أنه اتخذ بناء على دراسة بينت أن هناك إغراقا من ثلاث دول هي الصين وأوكرانيا وتركيا.
وهذا القرار يطرح عدة تساؤلات، منها أن وزارة التجارة لم تنشر تفاصيل الدراسة التي استندت إليها في اتخاذ القرار، كما أن قرارات مواجهة الإغراق تكون مؤقتة، وتزول بزوال حالة الإغراق وأسبابه أو تغيير وضع السوق، من حيث معدلات الطلب والاستهلاك في مقابل الإنتاج المحلي، كما أن تطبيق رسوم الإغراق خلال 6 أشهر مضت ساهم في رفع أسعار الحديد بأكثر من 30%، ما يعني أن القرار له آثار سلبية، ويظلم المستهلكين في المقام الأول، أي أن النتيجة النهائية لهذا القرار هو تعظيم أرباح الشركات العاملة في السوق المصري، وحمايتها من المنافسة التي هي في صالح المستهلكين.
وقد أتى القرار الأخير نتيجة مطالبات وشكاوى من جانب تكتل محتكري الحديد، والذين يتمتع أغلبهم بعلاقات جيدة مع السلطة بما فيها المجموعة الاقتصادية، بما يمتلكونه من نفوذ سياسي وإعلامي واقتصادي مؤثر، وقد بدأ توجه هؤلاء المنتجين لحماية السوق والسيطرة عليه مطالبين بالحد من استيراد الحديد في 2014، ثم تصاعدت مطالبتهم بحماية السوق خلال 2016 لتفرض الحكومة رسوم إغراق في منتصف 2017 بمعدلات تراوحت ما بين 10 إلى 27%، ونتج عن ذلك ارتفاع طن الحديد من 9 آلاف جنيه إلى ما يزيد عن 12 ألف جنيه خلال النصف الثاني من عام 2017.
ومع القرار الجديد بمد رسوم الإغراق لخمس سنوات، تكون الأسعار مرشحة للزيادة، ولعل المتابعين للسوق يتذكرون أن شركات الحديد خفضت سعر الطن ما بين 300 - 400 جنيه عام 2016 حين واجهت ارتفاع واردات الحديد والتي وصلت إلى 1.7 مليون طن.
تدعي الحكومة وشركات الحديد أن رسوم الإغراق ستساهم في خلق فائض إنتاج يسمح بتداول الحديد في السوق بأسعار متناسبة مع كلفة الإنتاج، إلا أن هذا الادعاء كذبته نتائج قرار الإغراق الذي سبق أن طبق من قبل.
كما أن شركات الحديد ترد زيادة أسعار منتجاتها أخيرا إلى زيادة الكلفة، خاصة أسعار خام البليت، ومع التسليم بزيادة أسعار الخام أخيرا، إلا أن الأسعار العالمية للحديد لم ترتفع بالنسب ذاتها التي ارتفعت فيها في مصر، ما يعني أن احتكار المنتجين لسوق الحديد لعب دورا أساسيا في ارتفاع الأسعار، رغم انخفاض كلفة بعض عوامل إنتاج الحديد في مصر، كالعمالة على سبيل المثال لا الحصر.
سيؤثر ارتفاع أسعار الحديد على قطاعات استثمارية وخدمية عديدة، أبرزها قطاع التشييد والبناء، حيث سترتفع كلفة تنفيذ الاستثمارات العقارية سواء كانت في القطاع العام أو الخاص، وبالتالي سترتفع أسعار الوحدات الإسكانية عموما، خاصة مع ارتفاع أسعار باقي مواد البناء، مثل الإسمنت، بجانب أسعار الحديد.
وستتأثر بلا شك مشروعات الدولة الإسكانية بتلك الزيادات، وخاصة الإسكان الاجتماعي، وهذا بدوره سوف يحمل موازنة الدولة أعباء جديدة مستقبلا، وهنا ستجد الحكومة نفسها أمام خيارات صعبة، إما زيادة أسعار الوحدات السكنية أو تقليص عددها، وفي كل الأحوال فإن المتضرر الرئيسي من هذه العملية هم الفئات الأكثر احتياجا للخدمات الإسكانية التي أعلنت عنها الدولة في خطة طموحة لبناء مليون وحدة سكنية.
على جانب آخر، ستؤدي ارتفاعات كلفة السكن إلى زيادة الطلب على الإسكان منخفض التكاليف، وهذا سينعش الإقبال على السكن المخالف والذي لا يلتزم بإجراءات السلامة وهو ما يحمل مخاطر عديدة.
وإذا نظرنا إلى حالة المباني السكنية البالغ عددها 13 مليون وحدة، حسب الإحصاءات الرسمية، سنجد أن 13% منها يحتاج إلى ترميم، بينما 4% منها تحت التشييد، ما يعني أن تلك المساكن سوف تتأثر بالزيادات في أسعار مواد البناء وفي مقدمتها أسعار حديد التسليح.
بجانب تأثيرات أسعار الحديد على قطاع البناء والتشييد، فإن هناك قطاعات أخرى سوف تتأثر، منها الصناعات الهندسية وصناعة المعدات والآلات والمركبات وكافة الصناعات والأعمال المرتبطة بصناعة الحديد والصلب.
وإذا كان قرار الإغراق ينتج أرباحا لمنتجي الحديد، فإنه ينتج على جانب آخر أزمات متعددة الأوجه سواء للمواطنين أو للدولة، وهذا يدفعنا إلى التذكير بالمعضلة الأساسية وهي عدم قيام الدولة بالاستثمار الصناعي في القطاعات الهامة، وعلى رأسها قطاع الحديد والصلب، والذي يعد قطاعا رائدا، نظرا لارتباطه بقطاعات استثمارية عديدة هامة منتجة للربح، وتستوعب العمالة، وأنه في حالة خوض الدولة معترك التصنيع سوف تنهي بذلك الوضع الاحتكاري لقطاع الحديد، وستوفر فرص عمل في قطاع هام وأساسي، لخلق دولة صناعية.
وفي هذه الحالة ليست هناك حاجة بالطبع إلى رسوم الإغراق، لكن هذ التصور يحتاج إلى توجه وطني يضع في الاعتبار وفي المقام الأول تلبية احتياجات السوق، وتوفير فرص عمل للمتعطلين وتوظيف الموارد والثروات الطبيعية التي يمكنها، إذا وظفت، أن تجعل مصر دولة رائدة في مجال الحديد والصلب.
لكن ما جرى في عهود سابقة هو محاولة الانقضاض وتصفية قطاع الحديد والصلب، بالبيع والتصفية، أو كما يحدث الآن من إهمال لما تبقى من قطاع صناعة الحديد، كشركة حلوان التي تعاني من إهمال وفساد وتصفية للعمالة الماهرة، وتعطل لقدرات الشركة عبر إهمال عمليات الإحلال والتجديد والصيانة.
(الدولار=17.8 جنيها تقريبا)
اقــرأ أيضاً
بالإضافة إلى ذلك، فإن القرار يعبر عن قصور في الأداء والتصورات الاقتصادية، وضيق أفق، بحيث تتم معالجة الإغراق بفرض رسوم على الاستيراد، بدلا من أن يفكر متخذو القرار الاقتصادي في تلبية احتياجات السوق من منتجات الحديد، عبر وضع استراتيجية إنتاجية ترفع معدلات الإنتاج، وتقلل سعر الكلفة، وخاصة أنه الحل الأمثل الذي يتجاوز الاحتكار والإغراق معا.
لكن هذا الحل لا تنفذه حكومات تنصاع لمنطق الربح الاحتكاري الذي يفرضه منتجو الحديد، كما يؤشر قرار الإغراق إلى نتائج سلبية لن تتوقف وحسب على القطاعات المعتمدة على منتجات الحديد، بل ستؤثر على قطاعات استثمارية أخرى، وسيرفع القرار أسعار بعض السلع والخدمات، ما يعني تحميل هذه الأسعار إلى المستهلك النهائي.
لم يكن قرار مكافحة الإغراق الأول من نوعه حيث سبقه قراران لوزير التجارة طارق قابيل، أحدهما يقضي بفرض رسوم إغراق لمدة شهرين، وجدد القرار لأربعة أشهر انتهت أول ديسمبر/ كانون الأول، ليتم فرض رسوم إغراق لمدة خمس سنوات، في سابقة غريبة تدفع للشك في أسباب اتخاذ القرار الذي أعلن أنه اتخذ بناء على دراسة بينت أن هناك إغراقا من ثلاث دول هي الصين وأوكرانيا وتركيا.
وهذا القرار يطرح عدة تساؤلات، منها أن وزارة التجارة لم تنشر تفاصيل الدراسة التي استندت إليها في اتخاذ القرار، كما أن قرارات مواجهة الإغراق تكون مؤقتة، وتزول بزوال حالة الإغراق وأسبابه أو تغيير وضع السوق، من حيث معدلات الطلب والاستهلاك في مقابل الإنتاج المحلي، كما أن تطبيق رسوم الإغراق خلال 6 أشهر مضت ساهم في رفع أسعار الحديد بأكثر من 30%، ما يعني أن القرار له آثار سلبية، ويظلم المستهلكين في المقام الأول، أي أن النتيجة النهائية لهذا القرار هو تعظيم أرباح الشركات العاملة في السوق المصري، وحمايتها من المنافسة التي هي في صالح المستهلكين.
وقد أتى القرار الأخير نتيجة مطالبات وشكاوى من جانب تكتل محتكري الحديد، والذين يتمتع أغلبهم بعلاقات جيدة مع السلطة بما فيها المجموعة الاقتصادية، بما يمتلكونه من نفوذ سياسي وإعلامي واقتصادي مؤثر، وقد بدأ توجه هؤلاء المنتجين لحماية السوق والسيطرة عليه مطالبين بالحد من استيراد الحديد في 2014، ثم تصاعدت مطالبتهم بحماية السوق خلال 2016 لتفرض الحكومة رسوم إغراق في منتصف 2017 بمعدلات تراوحت ما بين 10 إلى 27%، ونتج عن ذلك ارتفاع طن الحديد من 9 آلاف جنيه إلى ما يزيد عن 12 ألف جنيه خلال النصف الثاني من عام 2017.
ومع القرار الجديد بمد رسوم الإغراق لخمس سنوات، تكون الأسعار مرشحة للزيادة، ولعل المتابعين للسوق يتذكرون أن شركات الحديد خفضت سعر الطن ما بين 300 - 400 جنيه عام 2016 حين واجهت ارتفاع واردات الحديد والتي وصلت إلى 1.7 مليون طن.
تدعي الحكومة وشركات الحديد أن رسوم الإغراق ستساهم في خلق فائض إنتاج يسمح بتداول الحديد في السوق بأسعار متناسبة مع كلفة الإنتاج، إلا أن هذا الادعاء كذبته نتائج قرار الإغراق الذي سبق أن طبق من قبل.
كما أن شركات الحديد ترد زيادة أسعار منتجاتها أخيرا إلى زيادة الكلفة، خاصة أسعار خام البليت، ومع التسليم بزيادة أسعار الخام أخيرا، إلا أن الأسعار العالمية للحديد لم ترتفع بالنسب ذاتها التي ارتفعت فيها في مصر، ما يعني أن احتكار المنتجين لسوق الحديد لعب دورا أساسيا في ارتفاع الأسعار، رغم انخفاض كلفة بعض عوامل إنتاج الحديد في مصر، كالعمالة على سبيل المثال لا الحصر.
سيؤثر ارتفاع أسعار الحديد على قطاعات استثمارية وخدمية عديدة، أبرزها قطاع التشييد والبناء، حيث سترتفع كلفة تنفيذ الاستثمارات العقارية سواء كانت في القطاع العام أو الخاص، وبالتالي سترتفع أسعار الوحدات الإسكانية عموما، خاصة مع ارتفاع أسعار باقي مواد البناء، مثل الإسمنت، بجانب أسعار الحديد.
وستتأثر بلا شك مشروعات الدولة الإسكانية بتلك الزيادات، وخاصة الإسكان الاجتماعي، وهذا بدوره سوف يحمل موازنة الدولة أعباء جديدة مستقبلا، وهنا ستجد الحكومة نفسها أمام خيارات صعبة، إما زيادة أسعار الوحدات السكنية أو تقليص عددها، وفي كل الأحوال فإن المتضرر الرئيسي من هذه العملية هم الفئات الأكثر احتياجا للخدمات الإسكانية التي أعلنت عنها الدولة في خطة طموحة لبناء مليون وحدة سكنية.
على جانب آخر، ستؤدي ارتفاعات كلفة السكن إلى زيادة الطلب على الإسكان منخفض التكاليف، وهذا سينعش الإقبال على السكن المخالف والذي لا يلتزم بإجراءات السلامة وهو ما يحمل مخاطر عديدة.
وإذا نظرنا إلى حالة المباني السكنية البالغ عددها 13 مليون وحدة، حسب الإحصاءات الرسمية، سنجد أن 13% منها يحتاج إلى ترميم، بينما 4% منها تحت التشييد، ما يعني أن تلك المساكن سوف تتأثر بالزيادات في أسعار مواد البناء وفي مقدمتها أسعار حديد التسليح.
بجانب تأثيرات أسعار الحديد على قطاع البناء والتشييد، فإن هناك قطاعات أخرى سوف تتأثر، منها الصناعات الهندسية وصناعة المعدات والآلات والمركبات وكافة الصناعات والأعمال المرتبطة بصناعة الحديد والصلب.
وإذا كان قرار الإغراق ينتج أرباحا لمنتجي الحديد، فإنه ينتج على جانب آخر أزمات متعددة الأوجه سواء للمواطنين أو للدولة، وهذا يدفعنا إلى التذكير بالمعضلة الأساسية وهي عدم قيام الدولة بالاستثمار الصناعي في القطاعات الهامة، وعلى رأسها قطاع الحديد والصلب، والذي يعد قطاعا رائدا، نظرا لارتباطه بقطاعات استثمارية عديدة هامة منتجة للربح، وتستوعب العمالة، وأنه في حالة خوض الدولة معترك التصنيع سوف تنهي بذلك الوضع الاحتكاري لقطاع الحديد، وستوفر فرص عمل في قطاع هام وأساسي، لخلق دولة صناعية.
وفي هذه الحالة ليست هناك حاجة بالطبع إلى رسوم الإغراق، لكن هذ التصور يحتاج إلى توجه وطني يضع في الاعتبار وفي المقام الأول تلبية احتياجات السوق، وتوفير فرص عمل للمتعطلين وتوظيف الموارد والثروات الطبيعية التي يمكنها، إذا وظفت، أن تجعل مصر دولة رائدة في مجال الحديد والصلب.
لكن ما جرى في عهود سابقة هو محاولة الانقضاض وتصفية قطاع الحديد والصلب، بالبيع والتصفية، أو كما يحدث الآن من إهمال لما تبقى من قطاع صناعة الحديد، كشركة حلوان التي تعاني من إهمال وفساد وتصفية للعمالة الماهرة، وتعطل لقدرات الشركة عبر إهمال عمليات الإحلال والتجديد والصيانة.
(الدولار=17.8 جنيها تقريبا)