النظام المالي البريطاني "جنة" أموال الطغاة

06 فبراير 2014
+ الخط -

فيما يتضوّر الملايين من مواطني دول الربيع العربي جوعاً، تقبع مليارات الدولارات التي نهبها الحكام الطغاة وطغمتهم وعائلاتهم في مصارف الدول الغربية وبنوك الأوفشور.

ورغم الفرحة العارمة التي ملأت قلوب الجماهير بخلع الطغاة في كل من تونس ومصر وليبيا بعد ثورات جسورة بذلت فيها الدماء بسخاء لبناء عهد جديد، فإن الكثير من الطموحات لم تتحقق بعد بسبب غياب التمويل الكافي لإنعاش الاقتصاد وتحسين مستويات المعيشة وإعادة ترميم البنى الاساسية المتآكلة خلال سنوات الحكومات الدكتاتورية في دول الربيع العربي.

وقالت منظمة الشفافية الدولية بلندن في تقرير صدر أخيراً إن حوالى 99% من أموال الفساد السياسي التي تتدفق على النظام المالي الغربي لا يصار إلى تجميدها أو حتى الكشف عنها بسبب العقبات القانونية..

وانتقدت منظمة الشفافية الدولية في تقريرها حول الأموال التي نهبها ساسة ومسؤولون من دول العالم النامي النظام المالي الغربي الذي يحمي بشكل غير مباشر هؤلاء الساسة المفسدين ويمنع استعادة هذه الأموال الى شعوب دول العالم الثالث.

وقال التقرير الذي حصلت "الجديد" على نسخة منه "إن تطلعات الجماهير العربية إلى استعادة مليارات الدولارات المنهوبة لاستخدامها في اعادة بناء حياة المواطنين يقابلها بيروقراطية وصعوبات قانونية في المراكز المالية التي هربت اليها وعلى رأسها بريطانيا.

وحسب التقرير "لم تستعد تونس من الأموال التي نهبها زين العابدين بن على وعائلته وشركاؤه سوى 28.8 مليون دولار أرجعها لبنان، ويخت تقدر قيمته بـ10.3 ملايين دولار استرجعته إسبانيا".

فيما استعادت الحكومة الليبية الجديدة فقط عقاراً واحداً كان يملكه ابن العقيد القذافي في شمال لندن تقدر قيمته بحوالى 16.1 مليون دولار.

 وقال تقرير منظمة الشفافية الدولية إن هذه المبالغ التي استُعيدت تمثل نسبة ضئيلة من الأموال التي يعتقد أن هؤلاء الطغاة نهبوها وحولوها الى مراكز المال العالمية.

وتجد الحكومات الجديدة في كل من ليبيا وتونس صعوبة بالغة في تتبع هذه الأموال واستعادتها الى موطنها الأصلي لاستخدامها في اعادة البناء.

ونسبت المنظمة الى صندوق النقد الدولي قوله أن الأموال غير المشروعة التي يجري تبييضها في بريطانيا، وهي أموال مسروقة بشكل مباشر أو غير مباشر، تتراوح سنوياً بين 23 و57 مليار دولار، من بينها مبالغ تتراوح بين 20 الى 40 مليار دولار سنوياً يحولها سياسيون ومسؤولون فاسدون من الدول النامية. فيما نسبت المنظمة الى البنك الدولي تقديره أن حجم الأموال غير المشروعة التي استُعيدت في انحاء العالم وأُرجعت الى الدول التي نهبت منها بحوالى 5 مليارات دولار خلال الـ15 عاماً الماضية.

وتقدر دراسة منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي التي مقرها في باريس، أن 400 مليون دولار فقط من الأموال غير المشروعة التي تحول عبر النظام المالي لدول المنظومة يجري تجميدها كل عام. وهذا يعني أن نسبة أقل من واحد في المائة، اي حوالى 0.07%" من الأموال المنهوبة من دول العالم النامي التي تدخل النظام المالي الغربي، يتم تجميدها.

وضربت منظمة الشفافية البريطانية مثالاً على ذلك بأموال الدكتاتور النيجيري اباشي الذي سرق حوالى 1.3 مليار دولار من أموال الشعب النيجيري وحوّلها بالنظام المالي البريطاني.

وحسب تقرير المنظمة، فإن بريطانيا جمّدت فقط 229.6 مليوناً من بين الأموال غير المشروعة التي دخلت نظامها المالي خلال السنوات الماضية وأعادت فقط  2.2 مليون دولار من هذه الأموال الى دولها التي نهبت منها.

وحسب تقرير المنظمة "هذا يعني أن بريطانيا تعد من بين أقل الدول التي تجمد أو ترجع الأموال المنهوبة الى أصحابها بسبب تعقيد النظام القانوني الذي يضع عقبات عديدة امام ملاحقة هذه الأموال. كما أشار التقرير الى أن 99% من الأموال المنهوبة بواسطة ساسة دول العالم النامي ومسؤوليه والتي دخلت النظام المالي البريطاني ومصارف الاوفشور العالمية لم يتم تجميدها او حتى اكتشافها.

ويذكر أن مكتب الامم المتحدة لمكافحة الجرائم المالية والمخدرات رصد في العام 2011 نحو 150 قضية فساد  كبرى وجد من بينها 91 قضية في مناطق تخضع للسيادة البريطانية..

وعادة حينما يتآمر قادة السياسة والمسؤولون ورجال الاعمال على الشعوب ويسرقون ثرواتهم، غالباً ما يبحثون عن مكان آمن لإخفاء هذه الثروات.

ومن بين الاماكن التي يلجأون اليها، مناطق الاوفشور والمراكز المالية في أوروبا مثل لندن وسويسرا التي تحمي قوانينها المستثمرين مثل قانون "السرية المصرفية" الذي كان معمولاً به حتى العام الماضي في سويسرا، وقانون ملاحقة الاموال المسروقة في بريطانيا الذي يطالب بضرورة حكم قضائي وإدانة في بلد السياسي السارق أو المسؤول المرتشي.

 وعادة ما تجد السلطات السياسية في دول العالم النامي صعوبة بالغة في تعقب هذه الأموال المنهوبة.

ويقوم الساسة السارقون والمرتشون بإخفاء هذه الأموال عبر شبكة معقدة من التحويلات والحسابات المصرفية الوهمية لتتحول في النهاية الى استثمارات عقارية ومالية في الاسهم والسندات وأعمال تجارية أو حتى تمويل الحياة المخملية، مثل تملك اليخوت والضياع ومزارع الخيول والسيارات الفارهة.

ولا تقتصر عمليات التبييض أو الغسيل، كما يحلو للبعض تسميتها، على الأموال غير المشروعة فقط، بل كذلك يجري تبييض سمعة المرتشي أو السارق نفسه عبر توظيف شركة علاقات عامة في هذه الدول والمراكز.

وتعمل هذه الشركات على تحسين سمعة السياسي المرتشي وبناء علاقات محترمة له ولعائلته مع الطبقة الارستقراطية وفتح المنافذ الاجتماعية على مصاريعها أمامه.

وقالت المنظمة "الكثير من المشرفين على هذه المراكز المالية يتناسون أن هذا السياسي المرتشي الذي وظف القانون لحمايته والعلاقات العامة لتبييض سمعته قد تسبب في مآسي الملايين من البسطاء في بلاده وحولهم الى فقراء يتسولون لقمة العيش".

وعادة ما تسرق هذه الأموال من ميزانيات الصحة والتعليم ومشاريع البنية الاساسية وبنود الانفاق الاجتماعي الأخرى، وكلها على حساب المواطن، مثلما حدث في مصر عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وتونس عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وليبيا عهد العقيد معمر القذافي الذي اغتيل على يد الجماهير الليبية.

وانتقدت منظمة الشفافية الدولية في بريطانيا في تقريرها الاخير بشدة سلطات الرقابة المالية في بريطانيا والجهات المسؤولة عن مكافحة الجرائم المالية. وقالت إن بريطانيا بين الدول التي تعترف بهذه المشكلة ولكنها لا تعمل ما فيه الكفاية لحلها. ويقدّر مكتب الامم المتحدة للمخدرات والجرائم في تقرير بهذ الصدد أن أكثر من 99% من الأموال غير المشروعة التي تضخ في الاقتصادات العالمية والمراكز المالية لا يُكشف عنها. وحتى الجزء اليسير من هذه الأموال غير المشروعة التي يتم اكتشافها تجد الجهات التشريعية صعوبة في تجميدها أو حتى إعادتها لأصحابها.

وقالت منظمة الشفافية الدولية البريطانية "ترانسبيرنسي انترناشونال يوكيه" أنها تعتقد أن مستوى استعادة الأموال غير المشروعة في بريطانيا والمراكز المالية الاخرى ضئيل ولا يذكر مقارنة بحجم تدفقاتها. واشارت الى أن النظام القانوني البريطاني الخاص بتعقب أموال الفساد يحتاج الى اجراء تغييرات رئيسية حتى يتمكن من التعقب والتحقيق واسترجاع تدفقات الأموال التي ينهبها الساسة والمسؤولون الفاسدون من دولهم وتمرر عبر النظام المالي البريطاني ومناطق الوافشور الخاضعة للسيادة البريطانية.

ودعت المنظمة السلطات البريطانية الى اتخاذ ثلاث خطوات جريئة لاكتشاف الأموال المسروقة واستعادتها.

وهذه الخطوات هي: أولاً، عملية استعادة الأموال غير المشروعة يجب ان لا تعتمد على ادانة الاشخاص أو الجهة المتهمة في بلدها، ويجب أن تتعامل السلطات المالية مع الفساد حتى في حال عدم دعم الدولة التي نهبت منها الأموال. ثانياً، يجب أن لا تعتمد عملية استعادة الأموال غير الشرعية على التوجه السياسي بل على الجهات القانونية التي تطبق القانون وتجري التحقيقات الجنائية..

وأوصت منظمة الشفافية أن تتبنى بريطانيا الممارسات القانونية المتبعة في كل من سويسرا وكندا التي تسمح بالتجميد السريع للأموال غير المشروعة التي يحوّلها المسؤولون والسياسيون الفاسدون حتى وإن كانت دولة الاصل ليس فيها نظام قضائي أو لا تدعم القضية المرفوعة ضد السياسي الفاسد.

ولاحظت المنظمة أن النظام البريطاني الحالي لاستعادة الأموال غير المشروعة يكون فعالاً فقط حينما يكون هنالك دعم سياسي ثنائي بين بريطانيا ودولة الاصل التي نهبت منها الأموال. ويلاحَظ في كل من فرنسا واسبانيا أن  محاكمة المتهم بسرقة الأموال غير المشروعة واستعادة الأموال المسروقة تحصل حتى في حال دفاع دولته عنه.

كذلك لاحظت المنظمة أن المصارف ومؤسسات القطاع الخاص البريطانية التي تستفيد من الدعم القانوني وكفاءة شركات المحاماة تقاوم عمليات التحقيق والتقصي وبالتالي تعوق عمليات الكشف والابلاغ عن الأموال غير المشروعة في النظام المالي. وقالت إن الاجراءات الادارية لاستعادة الأموال المنهوبة في بريطانيا ليست فقط بطيئة ومعقدة، بل إنّ السلطات التشريعية البريطانية التي تعتمد على وجود ادانة للسياسي أو المسؤول المتهم بتحويل أموال غير مشروعة تجعل من المستحيل على دول الربيع العربي التي تجاهد لبناء نظم سياسية جديدة استعادة أموالها المسروقة.

المساهمون