مجزرة الكيماوي... من الإنكار إلى التلفيق

21 اغسطس 2016
لم تستوعب القنوات ما جرى إلا بعد ساعات(كرم المصري/PacificPress)
+ الخط -
مجزرة الكيماوي التي ارتكبها النظام السوري في غوطة دمشق، لم تكن حدثاً عادياً في حياة سكان الغوطة، ولا أهالي دمشق، أو سورية كلها. كانت المرة الأولى التي تشهد فيها البلاد منذ انطلاق الثورة السورية، جريمة بهذا الحجم حيث يقتل نحو 1500 شخص، بصمت ودون أن "تسيل دماء".
مع حلول الساعات الأولى من فجر الحادي والعشرين من شهر آب/ أغسطس من العام 2013 بدأت تتوارد أخبار مجزرة الكيماوي في غوطتي دمشق الشرقية والغربية، عبر الناشطين في المنطقة الذين لم يكونوا قد أدركوا بعد هول الكارثة. وتحدث كل منهم على المحطات الفضائية عن سقوط عشرات القتلى والمصابين في هذه المنطقة أو تلك، جراء استنشاقهم غازات سامة بينما وقف الأطباء والمسعفون، وهم قلة في تلك المناطق المحاصرة من جانب قوات النظام السوري، حيارى مدهوشين لهذا الكم الكبير من الضحايا من دون أن يكون بوسعهم عمل الكثير، إلا عمليات الإسعاف الأولية البسيطة من خلال نزع ملابس المصابين والضغط على صدورهم والسماح بوصول الهواء النظيف إليهم. وهو ما لم يكن متاحًا حتى في تلك اللحظات مع مواصلة قوات النظام إطلاق الصواريخ المحملة بعبوات الغاز السام، في توقيت مدروس وفق ما جاء في تقرير لجنة التفتيش التابعة للأمم المتحدة الذي أشار إلى أن "غاز السارين" أطلق بواسطة صواريخ أرض-أرض لضمان مقتل أكبر عدد ممكن من الأشخاص، لأن درجة الحرارة تنخفض بين الثانية والخامسة صباحًا، وهو ما يعني أن الهواء كان يتحرك للأسفل باتجاه الأرض.

على الصعيد الإعلامي، كان الفاعل الرئيسي في الساعات الأولى للمجزرة الناشطين الميدانيين الذين وقع على عاتقهم نقل صورة ما يجري للإعلام الخارجي وخصوصا العربي. لكن المشهد لم تتضح أبعاده إلا بعد مرور ساعات، إذ بدأت تتدفق صور الضحايا من البيوت والشوارع والمشافي الميدانية، حيث عشرات الأطفال ممددون على الأرض، بينما يقف الجميع بلا حول أو قوة. وعلى خلاف الاتهامات التي توجه عادة للناشطين بتضخيم الوقائع أو المبالغة فيها، وقعوا هذه المرة في محظور معاكس، حيث قلل بعضهم من الأرقام في الساعات الأولى نتيجة لعدم إدراكهم حجم ما حصل، أو عدم تصديقهم أن شيئاً مثل هذا يمكن أن يحدث.
وهذا ما حصل أيضًا مع القنوات الفضائية العربية التي لم تستوعب ما جرى إلا بعد ساعات طويلة. وحتى الساعة الحادية عشرة ظهرًا لم يكن ما جرى خبرًا رئيسيًا لدى العديد من المحطات المتابعة للشأن السوري آنذاك نتيجة عدم وضوح الصورة، وخشية الوقع في مبالغات الناشطين الإعلاميين. لكن مع تواصل تدفق الصور، وبعضها كان حيًا على الهواء مباشرة، أجبر الإعلام على التفرغ كلياً لتغطية ما يجري، لتحتل تطورات الغوطة صدارة النشرات بقية اليوم، وفي الأيام التالية.
إعلام النظام السوري وتوابعه وحلفائه، حاول كالعادة حين ترتكب قوات بشار الأسد مجزرة ما تجاهل ما يحدث، ثم سعى خلال الساعات الأولى إلى إنكاره، مشيراً إلى أن كل ما يقال مجرد فبركات من المعارضة والدول التي تدعمها لاستجرار التدخل الخارجي ضد النظام. لكن رواية النظام هذه لم تصمد طويلاً أمام تدفق الصور والتصريحات التي بدأت تصدر عن جهات دولية عدة، فعمد إلى الاعتراف الجزئي بما حدث لكن مع نسبه إلى "المجموعات الإرهابية المسلحة" التي تقاتل النظام. بل إن مستشارة رئيس النظام بثينة شعبان لفقت رواية غريبة بقولها إن ضحايا المجزرة هم أطفال من الساحل السوري قتلهم مسلحو المعارضة وأحضروا جثثهم الى الغوطة من أجل العمل الدعائي ضد النظام.
أما رئيس النظام بشار الأسد فقال بعد خمسة أيام من المجزرة في حديث لصحيفة روسية: "كيف يمكن لأي دولة أن تضرب مكاناً بسلاح كيماوي، أو بأي سلاح دمار شامل في منطقة تقع على تماس بين قواتها وقوات العدو، هذا يخالف العقل والمنطق".
لكن هذا الإنكار لم تثبته الوقائع على الأرض. وبعد تهديد الولايات المتحدة بشن هجوم عسكري ضد نظامه، وافق على مقترح حليفته روسيا بتسليم ما بحوزته من أسلحة كيماوية إلى منظمة حظر الأسلحة الكيماوية لتدميرها، لتتراجع واشنطن عن الهجوم.

ولعل الأسوأ من تغطية إعلام النظام، هي تغطية بعض وسائل الإعلام الغربية التي ظلت طوال أيام وأسابيع تكرر في حديثها عن المجزرة استخدام عبارات مستفزة بحجة الحياد والمهنية مثل قولها "الهجوم المزعوم"، مبرزة روايتي المعارضة والنظام بنفس القدر من الاهتمام، ومتجاهلة شهادات منظمات دولية عريقة بأن ما حدث مجزرة موصوفة واضحة تماما ضحاياها والفاعل فيها، ولا مبرر مهنيا ولا أخلاقيا للتعامل معها بكل هذا البرود.
والحجة الرئيسية التي استخدمتها الآلة الدعائية للنظام آنذاك أنه من غير المعقول أن يلجأ النظام إلى استخدام السلاح الكيماوي على هذا النطاق الواسع بينما مراقبو الأمم المتحدة الذين حضروا للتحقيق في واقعة استخدام النظام للسلاح الكيماوي في بلدة خان العسل بريف حلب قبل ذلك بأيام، يقبعون في فندق بدمشق على بعد بضعة كيلومترات من الغوطة. وزاد هؤلاء بأن كفة النظام العسكرية كانت راجحة في تلك المنطقة ولم يكن بحاجة لاستخدام السلاح الكيماوي.
لكن الوقائع التالية دحضت هذه الأقاويل. فرغم وجود المراقبين بالفعل على بعد عدة كيلومترات، لم يسمح لهم بدخول المناطق المنكوبة إلّا بعد مضي وقت طويل حيث دفن الضحايا ومحيت آثار الغاز الذي يتطاير بالهواء.

ومقابل الضجيج والردود العاطفية والانفعالية التي سيطرت في ضفة الضحايا والمعارضة السورية، كان لدى النظام استراتيجية متقنة إلى حد كبير تقوم على الإنكار حيثما أمكن، ومن ثم التقليل من حجم ما حدث، والتشكيك بصحة كل ما يصدر عن الفريق الآخر، مستغلاً سيطرته على الأرض والجو وخبراته المتراكمة، وخبرات حلفائه، في التعامل مع مثل هذه المواقف بالنفس الطويل، وتصيد أخطاء الفريق الثاني، لتشويش الصورة، والحصول على متسع من الوقت، من أجل إعادة ترتيب أوراقه.
وبعد مرور ثلاثة أعوام على المجزرة، ما زال المجتمع الدولي عاجزاً عن قول كلمته في ما جرى، واكتفت الدول الكبرى بقيام النظام السوري بتسليم ما أعلن عنه من ترسانته الكيماوية، بينما حقوق الضحايا ما زالت معلقة. بل إن عدم معاقبة النظام على تلك المجزرة، شجعه على تكرارها مرارًا في السنوات التالية، وإن على نطاق أضيق.



دلالات