"يوروفيجن"... أغانٍ تهبّ من الشمال

21 مايو 2023
فازت السويد عن أغنية Tattoo للورين (دومينيك ليبنسكي/ Getty)
+ الخط -

على الهواء مباشرة من دولة أوروبية أمست رسمياً سابقة، بعد أن صوّتت غالبية مواطنيها لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي سنة 2020، وباحتضان علم أوكرانيا ضمن إطار حرف O على هيئة قلب وسط الشعار، وبرعاية حصرية من شركة أميركية تنتج مستحضرات للعناية بالشعر، عُقدت الدورة السادسة والسبعين من مسابقة الأغنية الأوروبية "يوروفيجن" (Eurovision) لهذا العام في مدينة ليفربول بالمملكة المتحدة.

بخلاف السائد في الماضي من هيمنة دول الوسط الغربي كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا على لائحة أفضل العروض، نالت دول الشمال الإسكندنافية هذه الدورة حظوة ومنزلة لدى كل من لجنة التحكيم وأصوات الجمهور. ولئن سُحب السياسة لم تغب سنةً عن مسابقة "يوروفيجن"، فإن هواها الشمالي لم يهب من دون مناخ سياسي؛ إذ تعد دول الشمال الأوروبي الأكثر تحسباً لعواقب الحرب الروسية على أوكرانيا. على رأسها فنلندا والسويد، اللتان قدمتا في شهر مايو/ أيار من العام الماضي طلباً رسمياً لأجل الانضمام إلى حلف الناتو، في ردّة فعل جيوستراتيجية على الاجتياح الروسي لأوكرانيا.

تكللت الحظوة الشمالية بفوز السويد عن أغنية Tattoo للمغنية لورين (39 عاماً). ولورين طلحاوي مغربية أمازيغية الأصل، من مواليد العاصمة استوكهولم، وإن نشأت على بعد 100 كيلومتر عنها، في مدينة فيسترواز المطلة على بحيرة مايلارن وسط البلاد. منذ مشاركتها في مسابقة آيدول الشهيرة سنة 2004، مضت مسيرتها الفنية صعوداً بتؤدة، وعلى مدى أزيد من عقد ونصف، وصولاً إلى مسابقة "يوروفيجن"، بعد أن مرّت مؤخراً متوّجةً بالمسابقة الغنائية الأهم سويدياً، مهرجان الألحان (Melodifestivalen).

لعب الإخراج المسرحي التكنولوجي للوحة الراقصة المنفردة دوراً أوليّاً في قدرة أغنية Tattoo على التأثير. تظهر لورين وقد أطبق عليها أفقياً، كما لو أنها السماء، جدارٌ وضّاءٌ تدلّى فوق جدار آخر مسطّح استقر على خشبة المسرح، كما لو كان الأرض. مع حركات جسدية تعبيرية، كأني بها تقاوم احتجازها، ومقدمة موسيقية مركبة إلكترونياً من رشقات أصداء أنفاس وأجواء تحفيزية تبعث الأهبة في نفوس المراقبين، تشرع لورين في غناء المقطع الأول متحدثةً عن وجع الفراق، بينما تدفع بلوح السماء تدريجياً نحو الأعلى متحررةً من وطأته.

على عجالة، بعد قنطرة تصاعدية موجزة عند جملة "كمانات تعزف وملائكة تبكي وعند اتّساق النجوم سأكون هناك"، تبلغ الأغنية ذروتها لجهة العلو والارتفاع وتبقى عندها، حيث تعرض لورين المقطع الثاني الذي يشبه "رفرين"، يتكرر باستمرار. فيه، ستُفصح الأغنية عن عنوانها: "لأجل القرب منك، سأمشي عبر النار والمطر، فأنت عالق بي كوشم". وعنده يُسمع صوت المغنية كما لو بلغ حدوده الطبقية القصوى مشرفاً على النفاد، مقبلاً على الوقوع في النشاز.

من بين دول الشمال أيضاً، تألّقت النرويج. أغنية Queen of Kings قدمتها ابنة العشرين عاماً، المغنية من أصل إيطالي أليسّاندرا ميله (Alessandra Mele)، والتي لكي تصل إلى "يوروفيجن"، كان لزاماً عليها أن تفوز بمسابقة جائزة ميلودي الكبرى التأهيلية (Melodi Grand Prix). من العنوان، تحمل الأغنية مضموناً نسوياً، وإن كانت ميله قد صرّحت بأن أغنيتها لا تكتفي بتمكين المرأة وحسب، وإنما "كل الناس على حدّ سواء".

كما يوحي العنوان أيضاً، تُميّز الأغنية أجواءٌ قروسطية، وإن بلبوس أسطوري، كالذي لقصص المغامرات المصورة، الكوميكس، ومسلسلات "نتفليكس"، من فانتازيات مستقبلية بإسقاطات تاريخية. الغناء بدوره يحاكي الإنشاد القديم لشعوب أوروبا الشمالية. تعزز الكلمات من الزخم النسوي للمروية. تصفها بأنها "هي، ملكة الملوك. تركض مسرعة، تسبق الريح. لا شيء في العالم يوقف انبساط جناحيها، هي، ملكة الملوك، حطمت قفصها، رمت المفاتيح، ستصير محاربة البحور الشمالية والجنوبية".

مع أن ثمة مجموعة من الراقصات والراقصين على خشبة المسرح، إلا أن الأغنية بطابعها الإنشادي لا تفسح المجال أمام الكثير المثير من الرقص، الأمر الذي يحرم الأغنية أجواء السائد من التكنو الذي يرنو إليه معظم مُجايلي ميله من فتية جيل زي. أما أداؤها لجهة المقدرة الصوتية، فيتّسم بالقوة الصدّاحة والرقة المخملية في آن. بموجب طبيعة اللحن، توظّف للأغنية مهارات أوبرالية تصب بسهولة وسلالة في أنماط غناء البوب الشبابي الحديث.

فنلندا، جارة كل من النرويج والسويد، قدمت عرضاً بعيداً عن المألوف. أولاً، قد أتت الأغنية المشاركة Cha Cha Cha لمغني الراب كارييه (Käärijä) باللغة الفنلندية وليس الإنكليزية كسابقتيها. ثانياً، مثّلت استعادة لموسيقى تكنو القاع الإلكتروني الصناعي زمان التسعينيات بإيحاءاتها الشيطانية والذهانية، مثل تلك التي اشتهرت بها حينذاك فرقة The Prodigy البريطانية. أما كارييه (29 عاماً) فليس بمغنٍ بقدر ما هو مؤدٍّ موهوب، وسيطه الراب ورصيده على الخشبة يكمن في حيويته وجاذبيته وخفة حركته.

إلا أن أغنيته Cha Cha Cha، والتي دخلت السباق الأوروبي من الحلبة المحلية عبر مسابقة "الموسيقى الجديدة" الفنلندية UMK، لا تكتفي بالتكنو الصناعي ولا بتكنو البوب المفرط (Hyperpop) المعاصر، وإنما تقوم على صهر جملة من المتناقضات شديدة التنافر بأسلوب خلّاق مبتكر، تُقحم من خلاله مجموعة من راقصي لاتينو الجنوب أميركي بأزيائهم الوردية المزركشة، ما يؤمن وصل مضمون الأغنية بعنوانها، كما سيقود تصعيداً موسيقياً قائماً على التكرار لن ينتهي إلا بالانحلال في مقطع أخير ذي طبيعية لحنية قريب من موسيقى الدمى وأفلام الصور المتحركة اليابانية.

يبقى أن الإبهار منقطع النظير الذي أنار وحرّك القاعة المُضيفة للحدث، M&S، قد سلّط الضوء، حتى أثناء المقدمة قبيل انطلاق العروض، على ضآلة حجم الدور الذي بات يلعبه الغناء والموسيقى في أغنية اليوم، خصوصاً عند النظر إليها ضمن سياق الأداء الحي.

الإسقاطات الضوئية التي بثّت الصور المتحركة في كل مكان، الخدع البصرية والحلول الرقمية التي باتت توفرها التكنولوجيا الحديثة في الأحداث الفنية الكبرى، كانت المفتاح الحقيقي الذي استخدمه جميع المتسابقين، بحظوظ متفاوتة من النجاح، بغية صناعة الدهشة والاستئثار بقلوب المشاهدين، ممن حضروا ميدانياً أو تسمّروا أمام شاشات التلفزيون والهواتف واللوحيات الذكية.

المساهمون