ما الذي يُصنِّف فيلماً في سينما المرأة؟

ما الذي يُصنِّف فيلماً في سينما المرأة؟

21 أكتوبر 2022
"سعاد" للمصرية أيتن أمين: جمالٌ تائه بين رغبات الذات وقيم المجتمع (العربي الجديد)
+ الخط -

 

انعقدت الدورة الـ15 لـ"مهرجان سلا لفيلم المرأة" (المغرب) بين 26 سبتمبر/أيلول و1 أكتوبر/تشرين الأول 2022. تيمته: سينما المرأة. ما الذي يُصنِّف فيلماً في سينما المرأة؟ أنْ تكون بطلته امرأة، تحلم بالحرية والمساواة. فيلمٌ ينتصر للتحرّر، ولا يعيد إنتاج النظرة التقليدية للمرأة، كمسؤولة عن المطبخ، وكصيد سهل، وكمصدر متعة مؤقّتة، تستهلك بالدفع المسبق. فيلمٌ لا يُصنّف المرأة كائناً من الدرجة الثانية، ولا يُصوّر رجالاً يشتمون بعضهم البعض بأمهاتهم، ولا يعتبر الحبّ خطيئة. فيلمٌ يدحض الأفكار الخاطئة عن المرأة الناقصة.

كما في حكاية الشابة آنا، في "الماء"، للإسبانية إلينا لوبيز رييرا (جائزة لجنة التحكيم). مخرجة شابة تُدرك مأزق النساء في المجتمع المعاصر. ما بدأ فوضى في الفيلم، صار ينتظم تدريجياً، وله اتجاه، يدفع شابة حالمة إلى عيش تراجيديا باكرة. كان معها شبانٌ يعيشون الزمن الميت، في قرية فلاحية جنوبي إسبانيا العميقة، بعيداً عن الواجهة الحداثية للمدن الكبرى، كبرشلونة. هذا زمن ثمين، يُهدر بشكل فظيع. شبّان وشابات يقضون أوقاتهم حول النهر، ويلعبون بمياه. ماذا بعد؟

جميعهنّ يحلمن بمغادرة المنطقة القروية، حيث الروتين اليومي في حياة النساء: المطبخ بعد مغادرة المصنع. نساء يعملن في مصانع تغليف الخضر والفواكه. للفتيات أيدٍ كبيرة، كالرجال الكادحين. بين العمل والطعام، يتأمّل أشخاص مجرى النهر، وما يطفو فوقه، مُغادراً المنطقة للفرار من العمل الشاق. يفيض النهر، ويمضي إلى البحر. لكنّه يترك أثراً عميقاً في المجرى وحوله. يترك خراباً. شابّة تُحبّ شاباً، يترك ماءً في رحمها ويمضي. تتحمّل تبعات ذلك. غمرها الماء، كما في الملصق، وهي تدفع الثمن بشكل إرادي، من دون مَسْكنة.

تتكرّر استعارة المرأة والماء. استعارة تكشف التشابهات بين عنف تيار الحياة وتيار النهر. هناك توازيات بين جفاف الطبيعة وجفاف المشاعر، وبين ماء النهر وماء الرحم. "وصل الماء إلى الوعاء"، بالمعجم الذكوري المتعالي. في هذا الظرف، نتابع شابةً تناضل وتقاوم، كي لا يجرفها التيار.

"الماء" هادئ، يتناول موضوعاً شائعاً. تعزل المخرجة بطلتها في كادر، كي تُظهر محنتها. يتعامل الشبان بمنطق عاطفي انتهازي، "ضربَ وهربَ"، بخبثٍ أو بعجزٍ، لأنّ الشاب ليس لديه ما يُقدّمه لحبيبته المؤقّتة.

يهرب الشاب، وتدفع الشابّة الثمن، لمدّة طويلة. ما بدا أنّه "أرخص ليالي"، بحسب قصة يوسف إدريس (1954)، صار أكثرها كلفة في الفيلم الإسباني، ذي الأفق الكوني.

لتعزيز تيمة المرأة، عرض "مهرجان سلا لفيلم المرأة" أفلاماً عنها. يقول هشام فلاح، مديره الفني، عن منهج انتقاء الأفلام: "المعيار الأول الجودة السينمائية. المعيار الثاني عمق الفيلم وآنيّته. المعيار الثالث مراعاة انتقاء أفلام تتحاور فيما بينها، وتحْضر فيها رموز ثقافات مختلفة، يوحّدها البعد الإنساني. بفضل هذا، تظهر صلة فيلم بآخر، وتظهر لجمهور المهرجان صلة بين شخصية وسلوك ووجهة نظر". يضيف أنّه، بفضل مشاهدة المتفرّجين 10 أفلام في أسبوع، تظهر لهم تشابهات مُحاورات، وتوازيات لقطات، بين الأفلام المختارة. يقارن جمهور المهرجان بين وجهات النظر، ويكتشف التيمة التي تجمع أفلام المهرجان.

يظهر هذا بمشاهدة أفلام ـ أمثلة:

تكتشف سعاد جسدها بواسطة صُور هاتفها. تسْعَد بجمالها، ثم تتوه وتشقى بين رغباتها وقيم المجتمع، كما في "سعاد" (2021) للمصرية أيتن أمين. تدفع سعاد ثمن هذه الازدواجية، نفسياً، في مدينة صغيرة، حيث الجميع يراقبون الجميع. في وثائقيّ، تتقدّم مُغتَصَبة، وتكشف للطبيب الكونغولي أنّ مغتصبيها صبّوا الملح على عضوها التناسلي. حين أنجبت طفلاً، صُنِّف ابنها بأنّه "طفل ثعبان"، كما في "كونغو، طبيبٌ من أجل إنقاذ النساء" (2014) لأنجيل برينر (بانوراما سينما جنوب الصحراء). بسبب القهر الاقتصادي، اعتادت النساء دفن رؤوسهنّ في الرمال حين يتعرّضن للعنف. لكنّ الكاميرا شجعتهنّ ليحكين قصصهنّ. هذا عرّض حياة طبيب النساء للخطر. كلّ فيلم يقارب قضية المرأة، بعمق، يصير فضيحة في المجتمعات البطركية.

 

 

في "أناتو" (2022) لفاطمة بوبكدي، تندمج الشابة الأفريقية في حياتها في فاس. تعيش أناتو حياتها الجديدة، وتُطيع زوجها بسلام، كأنّ الماضي لم يعد موجوداً. تتنازل، بينما أمينة تقاوم، حين يلجأ محامٍ مصري ما قبل حداثي إلى المحكمة، ليُرغِم جاريته على دخول بيت الطاعة، في "إنذار بالطاعة" (1993) لعاطف الطيب (عُرض بمناسبة تكريم ليلى علوي). استخدم الطيب قانوناً ذكورياً، لا مُقابل له لدى النساء. لذلك، يطلب المحامي كشفاً طبياً عن البكارة، إمعاناً في الإهانة. مخجلٌ حجز الحب في "بيت الطاعة".

ما أشدّ محنة النساء مع مَنْ يحبونهنّ كجوارٍ، وما أشدّها محنة مع مخرجين تسيطر عليهم نظرة ذكورية، تكشفها الحبكة أو الحوار. بينما يحاولون الاصطفاف في صفّ تحرّر المرأة، يحكون بعين ذكورية.

تاريخياً، كتب الرجال عن الرجال، وكتب الرجال عن النساء، قروناً عدّة. تقول حكايةٌ، رواها مؤرّخ عتيق: "أصيب ملكٌ بالعَمى، فوصف له الحكماء علاجاً، يقضي بأنْ يغسل عينيه ببول امرأة مخلصة، لم تؤثر على رجُلِها رَجلاً آخر. غسل الملك عينيه ببول عشرات النساء، ولم يُشفَ. وحين غسل ببول امرأة وشُفِي، تزوّجها، وأحرق النساء الأخريات" ("تاريخ هيرودت"، ص. 181).

بما أنّ الرجال كتبوا الحكايات، فقد كتبوها على مقاسهم. سيفعل الملك شهريار الشيء نفسه بالنساء الخائنات، في "ألف ليلة وليلة".

كان الرجال يختلقون الحكايات عن النساء، ويمنعونهنّ من التعلّم. لقرون، كان تعليم البلاغة حَكراً على الذكور في منهج التعليم الأوروبي. البلاغة أم الأكاذيب، بحسب كاتي ويلز ("معجم الأسلوبيات"، ترجمة خالد الأشهب، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، 2014، ص. 590). تمّ المنع، لأنّ المجتمع يخاف من تلميحات الحكايات التي ربما تزعزع القرّاء، والقارئات خاصة. ينتظر المجتمع صدقاً أكبر من النساء، لذا يحميهنّ من البلاغة. يتساءل المعلّقون المعاصرون: لماذا عدد الكاتبات والمخرجات قليل؟

بدأ وضع المرأة يتغيّر منذ القرن الـ19، بفضل الثورة الصناعية، والروائيات الإنكليزيات، كجين أوستن في "كبرياء وتحامل" (1813). لذلك، كتبَتْ مارت روبير أنّ الروايةَ تاريخُ النساء (أصول الرواية ورواية الأصول). تقول: "لا تظهر الرواية في مجتمعات لاديمقراطية" (ص. 87). لا تزهر حياة النساء في مجتمعات ثيوقراطية. لا يسمح لهنّ بتمشيط شعرهنّ. لذلك، يُقتلن في طهران الآن.

حالياً، صارت البطولة السينمائية للنساء. بفضل الرواية والسينما، آن الأوان لتضع النساء حكاياتٍ على مقاسهنّ. حقّقت روز (كايت وينسلت) أسطورةً، في "تيتانيك" (1997) لجيمس كاميرون. وخلِّدت العاشقة المتمرّدة آنا كارنين في رواية تولستوي، ثم في أفلامٍ كثيرة مُقتبسة من الرواية، منها "آنا كارنينا" (2012) لجو رايت.

هكذا تحفر السينما في جذور اللامساواة المضادة للنساء، لتجفّفها وتقطعها. هذه لامساواة عتيقة، كشفتها غيردا لينر في كتابها "نشأة النظام الأبوي"، الذي يعكس نظرة نسوية عميقة في إعادة قراءة تاريخ اللاعدالة. تقول لينر إنّه، في قانون حمورابي "العين بالعين"، يحقّ للرجل الغني (القاتل أو المعتدي) أنْ يستعيض بنسائه أو عبيده لتلقّي العقوبة الجسدية بدلاً منه. تضيف أنّ نصف قوانين العهد القديم متماثلة مع قوانين حمورابي، وتُبيّن أنّه من 282 بنداً في شريعة حمورابي، ربعها يتعلّق بالزواج والجنس وتقييد حقوق النساء وترسيخ تبعيّتهن.

لم يخترع حمورابي قوانينه، بل حرّر شرائع سابقة عليه كانت تطبّق في المجتمع الزراعي، وانتقى المشرّع الذكر منها ما يناسبه. قانون "العين بالعين والسن بالسن" لا يزال سارياً، لكنّه لم يشمل النساء. ترسّخ هذا الوضع آلاف السنين، ثم جاءت السينما، في زمن المدن الحديثة، سيّدةَ الفنّ الحديث، لتنقض قانون حمورابي، وتكشف ـ بفنّية عالية، ومن دون خطابة ـ لا عدالة المجتمع البطركي.

هذه مهمّة كلّ فيلم يستحق أنّ يُصنّف في سينما المرأة.

المساهمون