لقطة بانورامية: مباراة بين فريقين من المخرجين

لقطة بانورامية: مباراة بين فريقين من المخرجين

01 نوفمبر 2022
بيليه وستالون في فيلم "الهروب إلى النصر" (Getty)
+ الخط -

شعبية كرة القدم، المتّسعة باطّراد، وجماهيرية فنّ السينما، بكل أنساق التفاعل والتواصل مع نتاجها، تُشغلان بال علماء اجتماع، وعدد غير قليل من المُشتغلين في الحقول المعرفية الأخرى. في الحقل الرياضي، تجاوزت شعبية لعبة كرة القدم مفهومها الرياضي. الاتّساع المتنامي لحجم مساحتها الجغرافية دفع علماء اجتماع، ومُشتغلين في حقول المعارف الإنسانية، إلى دراستها كظاهرة اجتماعية، في متنها الكثير ممّا يُمكن استكشافه، وإحالته إلى عوامل أخرى، طبقية وسياسية ونفسية. يذهب بعض هؤلاء إلى دراستها وتفسيرها من منطلقات عرقية إثنولوجية، وحتّى أنثروبولوجية، تنسب اختلاف درجات الشغف بها إلى مكامن علاقات تاريخية، وجدت تعبيراتها في اللعبة، وراحت ـ من دون وعي، أحياناً كثيرة ـ تتعامل معها كوسيط معبّر عن خصوصياتها القومية والعرقية.
"هوس" و"جنون" سكّان أميركا اللاتينية بالكرة يؤخذان، غالباً، كعيّنة على شدّة العلاقة بينها وبين رغباتهم الدفينة في التعبير عن خصوصياتهم القومية والعرقية. في حقل الإبداع، تقدّمت السينما على غيرها من الفنون جماهيرياً. شعبيّتها لا جدال حولها. اليوم، يجرى النقاش حول الوسائل الوسيطة لمُشاهدة أفلامها، لا عن ضمورها، أو تقلّص جماهيريتها. الشغف بها يجعل منها فنّاً، متون أفلامه تنفتح على عالمٍ لا متناهٍ، بؤرتاه المركزيتان: الإنسان ومحيطه. اللافت للانتباه في مشتركهما أنّه، حَال جَمْعه في سياق تعبيري بصري واحد (فيلم)، يظهر في الغالب هجيناً غير مُتناسق عضوياً.
هذا التوصيف يجد تعبيره، تاريخياً، في غالبية الأفلام التي سعت إلى الجمع بينهما. الكثيرُ منها اتّخذ من الكرة "حجّة" لمعالجة قصص وثيمات، يُراد نقلها إلى السينما بمعونة وسيط حكائي ثانوي جاذب للجمهور. تلك الأفلام تطرح سؤالاً: هل صحيحٌ اعتبارُها "أفلام كرة قدم"؟ الجواب يكمن ربما في التسمية الاصطلاحية. إذا كان الحديث يجرى عن السينما، بوصفها مفهوماً اصطلاحياً واسعاً، يؤطّر فيه عادة كلّ الأفلام وأنواعها، يُمكن عندها اعتبار أفلامٍ كثيرة اتّخذت من لعبة كرة القدم وسيطاً مُساعداً لنقل قصصها إلى الشاشة، بأنها "أفلام كرة قدم".
نظرياً، الأمر ليس محسوماً بعد. لكنْ، بالعودة إلى السينما نفسها، وكمثلٍ على تقريب الفكرة، توجد ـ بين ما أنتجته في أكثر من قرن ـ مئات الأفلام التي تناولت قصصاً رومانسية، تأتي غالباً في سياق سردي، فضاؤه أكبر من حدود علاقةٍ تجمع بين اثنين، كأنْ تقع في زمن حرب ما، أو ضمن حدث دراماتيكي تاريخي كبير، أو في ثنايا قصّة حبّ تنشأ بين مدرّجات ملعب نادٍ رياضي. الفيلم الوثائقي، تحديداً، وفي السياق التحليلي، يدعم بقوّة حجة السينما في مرماها لجمع كلّ ما يحيط بعالم الكرة ومشاهيرها تحت عباءتها.
في ما يتعلّق بنوع وحجم المنتج السينمائي، الذي يتناول عالم كرة القدم، تشير إحصائيات إلى قلّته نسبياً. أحد أسباب ذلك عائدٌ إلى الانقسام السينمائي الحاصل بين ضفتي المتوسّط حول نوع الكرة. فللأميركيين كرتهم الخاصة، التي تُسمّى تَميّزاً بـ"كرة القدم الأميركية"، المختلفة كلّياً عن كرة القدم التي تعرفها بقية العالم. سينمائياً، جرى التركيز عليها، وقدّمت هوليوود عدداً من الأفلام، وإنْ لم يرتقِ أكثرها إلى مستوى تُحف قليلة، كـ"أيُّ يوم أحد" (1999) لأوليفر ستون، و"راديو" (2003) لميشيل توني، و"مصنع كرة القدم" (2004) لنِك لوف. الاستثناء التاريخي الأبرز يحضر في "الهروب إلى النصر" (1981) لجون هيوستن. من أجله، ينتقل إلى أوروبا لسرد قصّة أسرى في معسكر نازيّ، إبّان الحرب العالمية الثانية، شكّلوا فريقاً لكرة القدم التقليدية، وواجهوا خصومهم من لاعبي جيش الاحتلال النازي.
ميزة مُنجز هيوستن أنّه أشرك ممثلين محترفين فيه، أدّوا أدوارهم في ملعب كرة (سيلفستر ستالون ومايكل كاين وماكس فون سيدو، إلى جانب اللاعب البرازيلي المشهور بيليه). سيبقى هذا الفيلم علامة على احترافية سينمائية، قادرة على استثمار التقنيات (صوت، توليف، كاميرات موزّعة على طول الساحة، وفي أرجاء الملعب)، إلى جانب ممثلين محترفين. أمرٌ تعجز سينمات أخرى، كالعربية، عن مجاراته. لذا، جاءت "أفلامها الكروية" دون مستوى الفيلم العادي، وكشفت ضعفاً في مستويات الأداء التمثيلي واشتراطاته الجسمانية، إلى جانب نقص واضح في المستويات التقنية المطلوبة لتعويض ذلك النقص (الصوت والتوليف والتصوير).
هذا الجانب تُمكن ملاحظته حتّى في أفلامٍ شارك فيها نجومٌ مصريون: "رجل فَقَد عقله" (1980) لمحمود عبد العزيز، مع فريد شوقي وعادل إمام، والأخير أدّى دور البطولة في "الحريف" (1983)، الذي جاء ـ بفضل المعالجة المتميّزة لمخرجه محمد خان ـ أعمق من أفلامٍ أخرى، تأطّرت حكايتها بلعبة كرة القدم، ولم تجد منفذاً درامياً مُقنعاً لتتشابك معها بعمق. في مصر، هناك مفارقة تاريخية، متأتية من ريادتها في تناول اللعبة سينمائياً، مع مُنجز توغو مزراحي، الذي أخرج عام 1937 فيلماً روائياً بعنوان "الرياضي"، الذي يروي قصّة بائع سندويتشات فول وطعميّة تحوّل إلى لاعب كرة قدم. مع ذلك، يُلاحَظ في مصر عدم استمراريتها، وانقطاع إنتاجها فتراتٍ تاريخية طويلة، كالفترة الناصرية، التي تحجّم فيها إنتاج هذا النوع من الأفلام. وفي زمنٍ قريب، يُلاحَظ إقبال لا بأس به عليها، لكنّه موصومُ عموماً برداءة، يُستثنى قليلٌ منها، كفيلم "العالمي" (2009) لأحمد مدحت، الساعي إلى ربط الكرة بمشكلات اجتماعية ونفسية، مُعالَجَة باشتغال سينمائي جيّد.
لم يَغفلْ السياسيون وأصحاب المصالح الاقتصادية الكبيرة عن شعبية كرة القدم، فجيّروها لصالحهم، وأشاعوا أنماطاً رأسمالية ربحيّة لها. على المستوى السياسي، رَوّج منظّرون يساريون نظرية "القطيع والراعي"، في إشارة منهم إلى استغلال الأطراف السياسية الحاكمة شعبيةَ كرة القدم، وتشجيع الناس على الانغماس فيها لينسوا مشاكلهم الحياتية، والانشغال الكلّي بعالمها، بدلاً من المطالبة بحلول لما يُقاسون منه. بعض السينمائيين تبنّوا ذلك الخطاب، واشتغلوا على مضامينه بأنساق كتابةٍ بعيدة عن الحدّة النظرية المُقدّم بها.
أخذوا من بعض الظواهر الملازمة لها خامات، أسّسوا عليها معالجات سينمائية لمظاهر سياسية واجتماعية مأزومة. ذلك الميل ظهر في السينما الأوروبية خاصة، وإلى حدّ ما في أفلامٍ عربية، أو تلك المقبلة من مناطق جغرافية مختلفة.
في أوروبا، اجتمع الوثائقي والروائي على إيصال الموقف النقدي من السياسة وألاعيبها، إلى جانب تثبيت صنّاعها مواقف اجتماعية ورؤى تدعو إلى عدالة واحترام حرية الكائن وخياراته الحياتية.

سينما ودراما
التحديثات الحية

مراجعة تاريخ السينما تُظهر قدرة الوثائقي وتفوّقه على الروائي في نقل عالم كرة القدم بكل تفاصيله. النقل الحيّ من الملاعب، وُملازمة الكاميرا للاّعب المُراد تسجيل جانب من حياته، بالإضافة إلى إمكانية استثمار الأرشيف لصنع أفلامٍ رياضية، لها صلة بتاريخها وواقعها. كلّ هذا يُشجّع على اختيار الوثائقي بدلاً من الروائي. فالأخير أصعب، يتطلّب جهداً إخراجياً مُضاعفاً، ولا يأتي غالباً بمستوى طموح متبنّيه. في المناطق الأخرى من العالم، ذات الاقتصاديات الإنتاجية البسيطة، يُصبح الخيار الوثائقي أكثر واقعية. ومع ذلك، يُلاحَظ في ما يشبه المفارقة أنّ دول أميركا اللاتينية، المهووسة بكرة القدم، والمتمتّعة بمستوى سينمائي جيد، لم تُقدّم أفلاماً مهمّة عن مشاهير لاعبيها، ولا عن تاريخها الكروي، فيما تصدّى مخرجون أوروبيون للمهمّة.
أفلامٌ وثائقية كثيرة جسّدت جوانب من حياة لاعبين مشهورين، أبرزهم البرازيلي بيليه، والأرجنتينييّن مارادونا وميسي. يبرز، من بين الأفلام التي تناولت حياة مارادونا، اثنان: "ماراودنا" (2008) لأمير كوستوريتسا، و"دييغو مارادونا" (2019) لأسيف كاباديا. الأول قدّم رؤيته الشخصية للاعبٍ أسطوري أُعجِب به، واعتبر حياته ومواقفه السياسية انعكاساً صادقاً لمشكلات بلده. الثاني قدّمه من منظور واقعي عام، لا مكان فيه للشخصي، فجاء أفضل من الأول بكثير. المُقاربة بينهما تطرح أسئلة عن أنساق المعالجة الوثائقية، واختلاف تناولها سينمائياً، بغض النظر عن الشخصية المحورية التي تتناولها الأفلام. في السياق، يُمكن اعتبار مُنجز كِن لوتش "البحث عن إريك" (2009) تراجعاً عن مستوى بقية أفلامه. مردّ ذلك، ربما، تحميل شخصيته الكثير مما لا تحتمل.
مع أنّ منشأ كرة القدم بريطاني، إلاّ أنّ الأفلام المُعالِجة لها قليلة. من أهمها: "أحرفها مثل بيكهام" (2002) لغورندر تشادا، التي تناولت فيه قصة شابة من أصول هندية، تريد لعب الكرة، لكنّها تواجَه برفض عائلتها. مُنجزٌ جميلٌ، يذهب إلى مناطق بعيدة عن ساحات الكرة التقليدية، لكنّه يقترب من الحياة ومشاكلها، تماماً كما فعل السويدي أولف مالمروز في "أفضل لاعبة كرة في السويد" (2002)، الذي قدّم فيه فاطمة، الطفلة الفلسطينية، بكلّ أبعادها المرتبطة بنشأتها في منطقة العزل السكّاني في المدينة السويدية غوتنبرغ.

سينما ودراما
التحديثات الحية

المساهمات الأوروبية متعدّدة، لكنّها ظلّت محلية الطابع، ومُنجزها السينمائي الكرويّ لا يبقى في الذاكرة طويلاً. المفارقة أنّ هناك أفلاماً عربية، وأخرى من دول مجاورة لها، تشي بفهم جيد لما يُمكن أنْ تشكّله اللعبة من حافز مُشجّع على تناول مشكلات المجتمع العربي، أو الأخرى القريبة منه، كالحروب والتمييز بين الجنسين والفوارق الاقتصادية المتواترة في اتّساع، من خلال فنّ السينما. في السياق، يبرز النوع الروائي القصير، كالفيلم العراقي "ميسي بغداد" (2021) لسهيم عمر خليفة، و"إجرين مارادونا" (2019) للفلسطيني فراس خوري، والتونسي "نفطا نادي كرة القدم" (2018) ليفيس بيات. جماليات اشتغالها لافتة للانتباه، وتدعو إلى تأمّلٍ في قدرة الفيلم القصير العربي على معالجة موضوعات معقّدة، سياسية واجتماعية، بالعمق نفسه الذي يُمكن للروائي الطويل تحقيقه.

كرة القدم تحضر أيضاً في أفلامٍ طويلة، عربية وكردية، جيّدة، كـ"ضربة البداية" (2009) لشوكت أمين كوركي، مُتناولاً فيه ببراعة موضوع الحرب، التي تركت آثاراً عميقة في الإنسان العراقي، وغيّرت كلّ مناحي حياته. وثائقياً، يأتي المُنجز السوداني "خرطوم أوفسايد" (2019)، ومُعالجة صانعته مروة زين موضوع المرأة السودانية، من خلال فكرة تأسيس فريق كرة نسوي يواجه صعوبات. الفيلم يعكس، في الوقت نفسه، طموحات نساء مُصرّات على تحقيق ذواتهنّ، رغم الواقع الذي يعشن فيه. ثلاثية "فيلم ـ كرة قدم ـ امرأة" تُذكّر أيضاً بمُنجز الإيراني جعفر بناهي "أوفسايد" (2006)، الذي يدور معظم وقته في ملعب كرة قدم، ومع ذلك، لم يُصوّر أيّ لقطة من الملعب، لأنّه أراد التركيز على هامشها، والمكان الذي مُنعت فيه صبايا تنكّرن بملابس أولاد، رغبةً منهنّ في تجاوز منعٍ فرضته السلطات الإيرانية المحافظة على دخولهنّ ملاعب كرة القدم. والكرة نفسها، عند بناهي وكوركي ومروة، وسيلة لعرض مشهد عامٍ وواسع لجوانب من الحياة وصعوباتها، في مجتمعات تتوق إلى التحرّر من قيم بالية وعادات، ربما تكون لعبة كرة القدم والسينما جسراً للعبور منها إلى الجهة الثانية.

المساهمون