"كوماندانتي" يفتتح "موسترا الـ80": الإنسانية تعلو والسينما تحضر

04 سبتمبر 2023
بيارفرانشيسكو فافينو: الشخصية تغلب الأداء (أنريكو دي لويجي، الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -

 

افتتح "مهرجان فينيسيا السينمائي (موسترا)" (30 أغسطس/آب ـ 9 سبتمبر/أيلول 2023) دورته الـ80، في قاعته التاريخية الكبرى، "صالة غراندي"، بفيلم "كوماندانتي"، للإيطالي إدواردو دي أنجيليس، المشارك في "المسابقة الرئيسية" مع 5 أفلام إيطالية أخرى. لم يكن الفيلم مختاراً للافتتاح أساساً. في هذا، بعض الرجاحة، إذْ اعتاد المهرجان افتتاح فعالياته بفيلمٍ من خارج المُسابقة، أميركي ذي إنتاج هوليوودي عادة، يتّسم بعوامل جذب وتشويق وإثارة، لإرضاء مختلف الأذواق، ولا يخلو طبعاً من نجوم ونجمات.

جرى التخطيط لهذا فعلياً. لكنّ إضرابات هوليوود، وقرار شركة الإنتاج والتوزيع الأميركية تأجيل عرض الفيلم المختار سلفاً، "المتحدّون"، للإيطالي لوكا غوادانينو، إلى الصيف المقبل، أجبرت المهرجان على استبداله بالفيلم الإيطالي، رغم عدم اهتمام المهرجان، منذ سنوات بعيدة، بفيلم افتتاح إيطالي. هذا العام، شَذّ عن القاعدة، لأمرٍ غير مفهوم، لا سيّما أنّ "كوماندانتي" ينافس أفلاماً أخرى في المسابقة. فلماذا اختياره من دون غيره من الأفلام الـ23؟ لماذا اختياره، لا اختيار سواه من الأفلام الإيطالية الأخرى؟ لماذا لم يختر ألبيرتو باربيرا، المدير الفني، فيلماً من خارج المسابقة، كـ"القصر" لرومان بولانسكي مثلاً، أو "ضربة حظ" لوودي آلن، أو غيرهما؟

عقب انتهاء عرض "كوماندانتي"، اتّضحت، ولو قليلاً، وجهة النظر المُتعلّقة باختياره، إذْ يُمكن اعتباره، رغم سياقه التاريخي، رسالة إيطالية صريحة وواضحة من المهرجان، تؤكّد رفض الحروب والصراعات المسلّحة، عامة؛ وتأييد القيم الإنسانية، والإعلاء من شأنها، والقول إنّ حياة البشر وأرواحهم ومصائرهم يجب أنْ تسبق أي شيء، بغضّ النظر عن الظروف، حتّى في الحروب. باختصار، هذا يؤكّده السياق. وللقول أيضاً إنّ الإيطاليين كانوا هكذا، وسيكونون هكذا دائماً، مع الأعداء ومع غيرهم، في الحرب والسلم. رسالة تُعلي من شأن البحرية الإيطالية والدولة، والتوجّه الإيطالي عامة، وإنْ حملت مبالغةً، وشوفينية ربما، فالتاريخ والواقع غير بعيدين.

لا يمكن التعامل مع "كوماندانتي" كفيلم تاريخي، فالأفضل تناوله كفيلم حرب ينتمي إلى أفلام البحرية. إجمالاً، يطرح بدلالاته المعاصرة القصّة الحقيقية للقائد والبطل الإيطالي الدونكيشوتي سلفاتوري تودارو (بيارفرانشيسكو فافينو)، مُنقذ حياة بحّارة أعداء، نجوا من غرق سفينتهم التجارية، ما عرَّض سلامة غواصته ورجالها لخطر مميت. رؤية سلفاتوري كامنةٌ في أنّه، حتّى في ظلّ محاربة العدو، يجب عدم نسيان أنّ العدو بشر، يمكن، بل يجب محاربتهم وهزيمتهم، لكنْ أيضاً إنقاذهم والحفاظ على حياتهم، ما دام هذا مُمكناً. مقارنة بما نحياه الآن، هل تُعتبر هذه الرؤية مثالية أو طوباوية؟

 

 

تدور أحداث "كوماندانتي" (كتابة ساندرو فيرونيسي ودي أنجيليس، استناداً إلى واقعة حقيقية في تاريخ البحرية الإيطالية والعالمية) في بداية الحرب العالمية الثانية. لكنْ، قبل انتقال الأحداث إلى الغواصة البحرية الملكية الإيطالية، "كوماندانتي كابيليني"، هناك لقطات "فلاش باك" لسلفاتوري يغرق في المياه، بطريقة غامضة، في دلالة على موت وشيك، ربما. ثم علاقته بزوجته، وإصابة غامضة في عموده الفقري كادت تُقعِده. ورغم السماح له بترك الوظيفة، والحصول على راتبٍ تقاعدي، يتحدّى مشاكله وإصابته، وتُسند إليه قيادة الغواصة، بعد دخول إيطاليا الحرب. المشاهد الافتتاحية، التي تشبه الحلم، غامضة ولا تُفسّر الكثير. لكنْ، لاحقاً، مع النهاية، تتضح الأمور كثيراً.

أساساً، يُركّز الفيلم على شخصية سلفاتوري، القائد الكاريزماتي المُسيطر، وتعامله الحازم والإنساني مع غواصته وطاقمها، منذ انطلاقها، أواخر سبتمبر/أيلول 1940. تجلى هذا، تحديداً، عندما تعطّلت الغواصة لسببٍ تعذّر إصلاحه، وكادت تغرق؛ كما تعرّضت لإطلاق نار كثيف من الطيران البريطاني، قرب المحيط الأطلسي (جبل طارق تحديداً)، حيث كانت تُبحر. بعد منتصفه تقريباً، في ليلةٍ مظلمة في أكتوبر/تشرين الأول (الغواصة تطفو على السطح ليلاً وتغوص نهاراً)، تُصادف سفينة تجارية مسلّحة مُبحرة على مقربةٍ، وأضواؤها مُطفأة. حاول سلفاتوري التحقّق من هويتها، لكنّ الوقت لم يسعفه، إذْ بدأت إطلاق النار على غواصته، وأصابت جندياً، فأعطى سلفاتوري أوامر بإطلاق المدفعية، وإغراق السفينة.

لاحقاً، يفاجأ الجميع بثلاثة أفراد يصارعون الأمواج، يتَضح لاحقاً أنّهم "أكثر من هذا"، وأنّ هناك قاربين فيهما 26 بحاراً. بصراحة ووضوح، يخبر سلفاتوري أنه ليس ممكناً، ولا مكان لديه، لإيوائهم. يمنحهم طعاماً، ويتركهم. لكنّه يعود لاحقاً ليقطر القاربين، لوقتٍ قليل. غير أنّ قوّة الأمواج والرياح تُحطّمهما. حينها، يتّخذ سلفاتوري قراراً إنسانياً، يُسجِّله التاريخ له: يأمر رجاله بإنقاذ البحّارة البلجيكيين، الذين كانوا سيقضون غرقاً في قاع المحيط، ثمّ، يُنزلهم بعد 3 أيام في أقرب ميناء بحري آمن، كالمنصوص عليه في القانون البحري. ولأنّ الأمر ليس سهلاً، يُفسح سلفاتوري مجالاً لهم في غواصته، بل يُضطرّ للإبحار على سطح الماء لـ3 أيام، أمام العدو، مُعرّضاً حياته وحياة رجاله لخطر البحرية البريطانية، أساساً.

في الغواصة، يُبرز إدواردو دي أنجيليس شخصية سلفاتوري، ويُعظّم قدراته القيادية في السيطرة على طاقمه الساخط، وعلى بعض البحّارة البلجيكيين، فمنهم من يتعامل مع الإيطاليين كفاشيين، وبعض آخر يحاول تخريب الغواصة عمداً. يتجاوز سلفاتوري الأمر بشخصيّته الحازمة. ورغم ضيق المساحة، ونفاد الطعام تقريباً، واضطراره إلى المخاطرة وطلب إذن السفن الإنكليزية بالسماح له بالمرور من دون إطلاق النار على غواصته، لأنّ فيها بلجيكيين (كانت بلجيكا على الحياد، ولم تدخل الحرب بعد)، ينجح سلفاتوري ببلوغ أقرب يابسة: جزر الـ"آتزور".

تمحورت الأحداث، وغالبية كادرات الفيلم، حول شخصية سلفاتوري، أو النجم بيارفرانشيسكو فافينو الذي، رغم موهبته الفذّة، طغت الشخصية عليه وعلى أدائه، غالباً. فكانت الشخصية تحمله وتقوده، لا العكس. أمّا دي أنجيليس فوظّف معظم طاقته وقدراته في إخراج فيلمٍ بإتقان وإقناع كبيرين، لا سيما أنّ أغلب أحداثه تدور في مكان مغلق، ونجح في هذا، ولو قليلاً. هناك لقطات جميلة فعلاً، بل رائعة، في الغواصة، خاصة بعد اكتظاظها بالإيطاليين والبلجيكيين. اللون البني الداكن أضفى جمالية وسحراً على لقطات عدّة. ولقطات الافتتاح، الأشبه بالحلم، وغموضها، على قدرٍ من الفنيّة والجمال أيضاً.

إجمالا، يوصف "كوماندانتي" بالجيّد، بصرياً تحديداً، وإنْ كانت المشاهد الخاصة بتعليم البلجيكيين للإيطاليين طريقة طبخ البطاطا المحمّرة، التي لم يسمع بها الإيطاليون قبلاً، طريفة، لكنّها بدت مقحمة ومفتعلة ومباشرة، لا سيما أنّهم يشرعون في الغناء والرقص معاً، بعد التهام البطاطا.

المساهمون