كالفينو وعشق السينما وذاكرة الحرب

05 فبراير 2023
فيلم "ساكو وفانزيتي" إنتاج عام 1971 (IMDb)
+ الخط -

 

لم أكن تجاوزت العاشرة من عمري، حين خرجت عائلتي، للتوّ، من مشكلة كبيرة مع الحكومة، بمعناها المجازي: طُلب من أبي، سائق قطار، أن "يحشر" 500 سجين يساري (شيوعي) في العربات الحديدية، في صيف تموز/ يوليو القائظ، إلى أحد أكثر السجون رعباً في العراق، سجن "نقرة السلمان" (الجنوب). أمر نقلهم يتضمّن أيضاً سَيْر القطار ببطء، ليموت أكبر عددٍ منهم. تحايل أبي على الأمر، وسار بالقطار بأقصى سرعته، لإيصالهم سالمين إلى سجنهم. هذه الحادثة اعتبرها اليساريون ملحمة وطنية، ومجّدوا بطولة السائق، وسُمّي القطار "قطار الموت".

في مثل هذا الجوّ، دخلت أول مرة إلى صالة عرضٍ في بغداد، بداية سبعينيات القرن الـ20، صحبة أخي الكبير. كان الفيلم المعروض "ساكو وفانزيتي"، إنتاج عام 1971، كتبه وأخرجه الإيطالي جوليانو مونتالدو، بناءً على أحداث محاكمة نيكولا ساكو وبارتولوميو فانزيتي، وإعدامهما.

لكنْ، يبدو أنْ الفيلم لم يكن عادياً. فصيحات الجمهور في الصالة تصرخ غاضبة بشعارات يسارية، وأنا مندهشٌ مما يحصل، حتّى وجدتني أتلاطم في نهايته مع الجمهور في الشارع الذي تقع فيه الصالة، مُردّدين الشعارات نفسها. كنت خائفاً وسعيداً، لأني ببساطة أشارك في مُظاهرة.

بعد أنْ نضج وعيي لاحقاً، عرفتُ أنّ هذا الفيلم سبّب مظاهرات غاضبة، أشعلت مدناً مثل روما وبوينس آيرس وباريس وليشبونة، وغيرها. إذاً، لم تكن المظاهرة الصغيرة في بغداد، الخارجة من صالة سينما سميراميس، إلا جزءاً من مظاهرات عمّت عواصم كثيرة. فقضية ساكو وفانزيتي أثارت العالم، في عشرينيات القرن الماضي، وخلّدتها السينما في سبعينياته. السبعينيات؟ إنّها العقد الذي شهد مدّاً يسارياً طامحاً إلى تسجيل حضوره.

هناك سؤال ظلّ يُراودني، حتّى هذه اللحظة: لِمَ لا أخلّد ما فعله أبي مع السجناء؟ ألا يستحقّ ذلك توثيقاً، فتعرف الأجيال هذه القصّة البطولية للسجناء والسائق؟ نعشق الحكايا والقصص من أفواه جدّاتنا، ومن فنّ الرواية. لكنْ، ما أمر هذا القَصّ؟ هل ليُسلّينا، أم تراه تأثيراً فيناً وعبرة لنا؟

السينما اختراع سحري جعلنا نحبّ الحكايا، وسرد الأحداث التي تمرّ بنا. لكننا نحبّها أيضاً لأنّها توفّر علينا عناء الخلق والتخيّل. فنحن نخوض، كأبطال الفيلم، أحداثاً تُصنع بمهارةٍ، تُطابِقُ إلى حدّ كبير حياتنا، فنروح معهم في متعة سرد الأحداث، بل والتأثير بها. نغضب ونحزن ونفرح، وأحياناً ننتقم. الجميل في السينما أنّك تتعاطى معها بـ"ديمقراطية"، لأنّك أنتَ من يختار الفيلم الذي يتماهى وطبيعتك، ولا أحد يفرض عليك ما تختاره.

السينما كلمة تنفتح على عوالم البهجة والحزن، والفوضى والانسجام، والحبّ واللاحب، تماماً مثل كالفينو في إحساسه أنّ ما يشاهده على الشاشة فقط هو الذي يمتلك المميزات المطلوبة من العالم: الامتلاء والضرورة والانسجام، وأحلام اليقظة. ببساطة: ملاذٌ مصطنع، تشغلنا الحياة به. السينما تجعلنا أكثر وعياً في رؤية وجودنا اليومي، وفي تكوين شخصيّتنا، ولا بأس أنْ نتماهى مع الخرافة، شرط أنْ نتقمّص الشخصية التي نحبّ، على طريقة "إيرما لادوس". مثل كالفينو، وهو يفضح عشقه للسينما في "مذكرات مرتاد سينما"، في هروبه من المدرسة والذهاب إلى صالة العرض. كان يشاهد نصف فيلمٍ، ويُكمِل النصف الآخر في التلفزيون بعد أربعين عاماً.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

مثله أيضاً، كان للحرب حضورها. عند كالفينو، اضطهاده المرير من انقطاع الرؤية بسبب قرار الفاشية حظر الأفلام الأميركية في الحرب. وعندي، عندما حجبت عنّي الحرب نفسها ولوج عالم أحبّ. لكنّ ذلك لم يمنعني يوماً من الهروب من إحدى جبهاتها مباشرة، باتجاه بوابة ساحة الاحتفالات المكتظّة بخوذ قتلى الحرب، إلى "سينما المنصور"، حيث يُعرض "باريس والآخرون"، قصيدة كلود لولوش البصرية. وعلى إيقاع موريس بيجار، أستعيد مأساة الحرب وأهوالها في عتمة الصالة.

"صالة الأحلام"، هكذا ببساطة وجدها رولان بارت. عالمٌ ساحر يومض، مُنبثقاً من عتمتها الحالكة، التي هي عند بورخيس رمادية، تشبه عالم الشاشة الفضية.

كان الحضور الشهوانيّ للنساء، عند كالفينو، يجعل مارلين ديتريش ليست موضوعاً للرغبة، بل الرغبة نفسها. أمّا عندي، فهو حضورها الإنساني، تماماً كدموع سوزان هيوارد وهي تواجه حبل المشنقة في "دعوني أعيش"، وموت رومي شنايدر في "أشياء للحياة". الحياة إذاً هي القرينة. السينما ممرّ إلى الذات في لحظة انعتاقها. نهاية طريق لم يبدأ بعد.

هذا العشق للسينما جعلني أرغب، بشدّة، في أنْ أكون في دوّامتها، فاخترت الكتابة عنها. قبل ذلك، حاولتُ أن أدرسها بشكل علمي. لكنْ، للأسف، لم تسنح لي الفرصة في الدراسة النظرية، بسبب طبيعة فهم المؤسّسة الحاكمة في العراق، فترة السبعينيات الماضية، موضوع التعليم، حيث لم يُسمح لغير المتحزّبين بدراسة بعض الفروع الإنسانية، كالرياضة والفنّ والتدريس، باعتبار أنّ المتخرّجين سيدخلون سلك تعليم الأجيال. هذا زادني إصراراً على اكتساب المعرفة السينمائية من غير مصادرها الأكاديمية الصرفة، واعتماد القراءة المتخصّصة، والمُشاهدة المستمرة للأفلام، فضلاً عن ملاحقة أبرز إنجازات هذا الفنّ وتياراته.

لا يلازمني شعورٌ بأنّ الدراسة الأكاديمية كانت ستضيف لي ما هو أكثر مما فعلته، خاصّة أنّ المؤسّسات الأكاديمية السينمائية لدينا تعاني قصوراً واضحاً في أدائها التعليمي، ومعظم خرّيجيها تستوعبهم الوظائف الإدارية.

المساهمون