ردهة الـ"ليمبو" ومتاهاته: بلاغة السينما في اشتغالاتها

01 مارس 2023
هارلي/بايكر: متاهة "ليمبو" في بلدة غبار وفراغ (الموقع الإلكتروني للـ"برليناله")
+ الخط -

 

مغريةٌ لعبة تفسير عناوين أفلامٍ سينمائية، قبل مشاهدتها وبعدها. عناوين، بعضها مؤلَّف من مفردة واحدة (وهذا أصعب في اللعبة نفسها)، تُثير حشرية المعرفة، والمشاهدة تساهم في إزالة الغموض عن العنوان، وفقاً للنص السينمائي.

"ليمبو" (2023)، لأيفان سَنْ (1972، أسترالي من السكّان الأصليين)، أحد تلك العناونين الجاذبة إلى لعبة التفسير، رغم أنّ المعنى غير خفيّ كثيراً: "ردهةٌ بين الجنّة والجحيم"، بالمفهوم الكاثوليكي. أحد التفسيرات الإضافية يقول إنّ "اليمبوس" (المفردة المستخدمة في اللغة العربية) "منطقة وسطى بين الجنّة والجحيم، توضع فيها أرواح الأطفال الأبرياء الذين يموتون قبل تعميدهم". مُشاهدة الفيلم (Limbo)، المشارك في مسابقة الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، تُتيح تمعّناً أعمق في تفسيراتٍ، سيكون لبعضها الدينيّ حيّز أو إشارة أو تلميح أو واقع.

اختيار الأسود والأبيض جزءٌ من البنية الدرامية للحكاية. أمكنة التصوير (كاميرا أيفان سَنْ، الكاتب والمونتير ومؤلّف الموسيقى أيضاً) انعكاسٌ بصريّ لمتاهةٍ ودهاليز وأزقّة منغلقة على نفسها، ولمساحات شاسعة من الغبار والفراغ. لقطات من علٍ تكشف اتّساع الخراب الفرديّ، وأخرى مُقرّبة، أو مرافقة لأفرادٍ ومساحات أصغر، تُبيِّن ذاك الاتساع أكثر، وتُظهر حجم التمزّق والقهر والألم والغضب، في ذاتٍ وروح.

فندق "ليمبو" يؤكّد، بدوره، قسوة تلك المتاهة/الدهاليز، بجدرانه الضاغطة، وغرفه المُقامة في آخر نفق، وبممرّاته الأشبه بأنفاق. أمكنة يسكنها البعض، أو يُقيم البعض بالقرب منها، تُشبه مداخلُها كهوف الإنسان الأول. الغبار كثيرٌ، إلى حدّ يكاد يخرج من الشاشة إلى الصالة.

كلّ التفاصيل هذه مرسومةٌ، أيضاً، في شخصياتٍ مليئة بمظهر قاسٍ، وبمبطّن يريد خلاصاً أو راحةً أو سكينةً، وإنْ تكن هذه مؤقّتة أو غير واقعية. أبرز تلك الشخصيات، المحقّق ترافيس هارلي (سايمون بايكر)، المدمن على الهيرويين، والمعلَّق في تلك المسافة غير واضحة المعالم، بين مهمّة العثور على شارلوت هايز، الشابة المفقودة منذ 20 عاماً، وإغلاق ملف القضية "نهائياً"، بعد معرفة كلّ ما يتعلّق بالمسألة، وبالمتورّطين فيها. دليلٌ واحدٌ يملكه: تسجيلات لتحقيقات سابقة، تُفيد بأنّ هناك جريمة قتل حاصلة بحق تلك الشابّة (غير متجاوزةٍ سنّ المراهقة بعد)، المنتمية إلى السكّان الأصليين. لكنْ، هل يتمكّن هارلي من معرفة حقائق ووقائع مطلوبة؟ لا السكّان يُبدون أدنى استعدادٍ لمساعدته، ولا العائلة (التي يظهر تفكّكها تدريجياً).

 

 

للمسألة جانبٌ "عنصري"، بل جانب مرتبطٌ باختلاف جوهري بين الطرفين: السكّان الأصليون غير قابلين لأي كلامٍ مع شرطيّ/محقّق، إجمالاً. المعضلة أنّ هذا الشرطي/المحقّق أبيض، وليس منهم/منهنّ.

منذ اللحظات الأولى، يُقدِّم ترافيس هارلي نفسه بسلاسة، غير منزّهة عن ذاك الكمّ الهائل من الإحباط والخيبة والألم والبحث عن منفذٍ. اللقطات المرافقة لقيادته سيارته باتّجاه البلدة، مستمعاً إلى مبشِّر دينيّ (هذه إضافة درامية وجمالية على المعنى الكاثوليكي للعنوان)، تقول إنّ الرجل مُقبلٌ على اختبار قاسٍ، وإنّ المساحات الشاسعة والمفتوحة حوله، بكلّ ما فيها من فراغ وغموض وقسوة، ستحيط به دائماً، كأنّها ترغب في التهامه.

أوشام جسده تعكس شيئاً من انبعاثه المؤقّت في جحيم الأرض، عبر تلك البلدة المُقيمة في المجهول (بلدة صخرية في منطقة نائية في أستراليا)، والناشئة من لا مكان (أو هكذا توحي به على الأقلّ)، والمرمية في خلاءٍ منبسطٍ على جغرافيا توهم بهدوءٍ ظاهر، قبل أنْ تنكشف ارتباكات وقلاقل. التحقيق في الاختفاء غير منفصلٍ عن مسارٍ وعلاقات، تُصنع في رحلة البحث (أيكون البحث جدّياً، بالنسبة إلى المحقّق ترافيس هارلي، أم مجرّد مهمّة يُستحسن الانتهاء منها بسرعة؟)، التي تُتيح لأفرادٍ عديدين (أقرباء المُختفية، جيران لها، المحقّق نفسه) إمكانية ولوج مرحلةٍ أخرى، ستكون (أو هكذا يُفترض بها أنْ تكون) مختلفة كلّياً. أي أنّ حضور ترافيس في "بلدة الغبار" هذه دافعٌ إلى مواجهات شتّى، أصعبها وأقساها تلك الحاصلة مع الذات.

بوجوده في البلدة/الفندق/الليمبوس (إنْ يصحّ وصف البلدة/الفندق بالـ"ليمبوس" أيضاً)، يجهد ترافيس في الخروج من ذاك المأزق (البحث عن الشابّة المختفية، وإغلاق الملف/القضية نهائياً)، لكنّه يجهد أكثر (أو ربما يوحي هو بذلك) في خروجٍ له، مطلوب بشدّة، من بؤر الخراب الروحي/النفسي/الجسدي، الساقط فيه. معرفة السبب غير مهمّة، فالبلدة، بعمارتها وطرقاتها وأمكنتها وناسها، حالةٌ يحتاج إليها المحقّق للخروج من ضيق الروح/النفس/الجسد. في سياق بحثه وتحقيقه، يلتقي إيما (ناتاشا وانْغِنين)، شقيقة المختفية، التي ستكون نافذة له إلى مسائل كثيرة، كتشارلي (روب كولنز)، شقيقهما، لكنْ ليس إلى المسألة الأساسية.

هذا بعض ما في "ليمبو"، الذي يُتيح للأسترالي سايمون بايكر (1969) تقديم دور جميل وقاسٍ، بحِرفية تتجاوز المطلوب إلى الأبعد والأعمق، في اشتغالات ترافيس هارلي في ما يصبو إليه.

المساهمون