تلاعُب نبيل عيّوش: "أرضي" أم أرضك؟

13 ديسمبر 2022
نبيل عيوش: محاولة المساواة بين الضحية والجلاّد (ستيفان كاردينالي/Getty)
+ الخط -

 

من الأفلام المغربية التي تناولت القضية الفلسطينية، "أرضي" (2010) لنبيل عيّوش، الذي ذهب إلى مخيّم للاجئين جنوبي لبنان، وصوّر مسنّين فلسطينيين يعيشون منفيين هناك.. يتذكّرون ويحكون عن أماكن عيشهم في محيط مدينة حيفا، لحظة مغادرتهم إياها عام 1948. صوّر عيّوش هؤلاء المُبعدين، ضحايا النكبة، وهم يتحدّثون بحرقة عن الأماكن التي عاشوا فيها منذ 52 عاماً. ثم عَبَر الحدود إلى شمال فلسطين المحتلّة، وبدأ عرض حكايات مُصوّرة لشبان إسرائيليين، يعيشون في الأماكن نفسها التي لا يعرفون تاريخها، لكنّها أماكن لا تزال فيها بصمات الماضي جليّة.

هكذا سطّر نبيل عيّوش مُقدّمة إشكالية لفيلمه الوثائقي الجدلي، مُبيّناً صلته بالموضوع، ومُعلناً أنّه يعتبر الإسرائيليين مُضطهِدين، والفلسطينيين مُضطهَدين.

بضع دقائق فقط في "أرضي"، حوارات طويلة تمتدّ 80 دقيقة، خصّص عيّوش ثماني دقائق منها للاجئين الفلسطينيين، و40 دقيقة لاحقة بها للإسرائيليين. قدّم بضع دقائق للفلسطينيين، ومنح الكلمة للإسرائيليين.

تعرّض الفيلم إلى انتقاداتٍ شديدة في المغرب عند عرضه، لأنّه أعطى الكلمة لأحفاد الجلادين مدّة أطول، ولأنّ "أرضي" اعتُبر تطبيعاً ثقافياً. تفسير هذا الميل يفترض أنّ العرب يعرفون موقف الفلسطينيين، والمطلوب معرفة رأي الإسرائيليين. كان الموضوع حسّاساً، وهذا توقّعه عيّوش، وردّ عليه، في جوابه في مطلع الفيلم، حين شرح أنّ لهذا الأخير بُعداً شخصياً بالنسبة إليه، فهو من أمّ يهودية، وأبٍ مسلم.

تاريخياً، تحتلّ المسألة الفلسطينية موقعاً مركزياً في المشهد الثقافي المغربي. لكنْ، سينمائياً، ركّزت أفلام مغربية كثيرة على تناول الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، كما في "وداعاً أمهات" (2007) لمحمد إسماعيل، و"فين ماشي يا موشي" (2007) لحسن بنجلون، و"عايدة" (2015) لإدريس المريني، عن يهودية تعود من باريس لتموت في مسقط رأسها، المدينة المغربية "الصويرة".

صُوّرت هذه الأفلام في المغرب أساساً. لكنْ، هناك أفلام أخرى، وثائقية، صُوّرت في إسرائيل، كـ"تنغيّر جيروزاليم: أصداء الملاح" (2014) لكمال هشكار، و"أرضي" لعيّوش.

في فيلمه المبني جدلياً على شيوخ فلسطين وشبان إسرائيل، يُقيم نبيل عيّوش تقابلاً بين الماضي والحاضر، على المكان نفسه: القرية الفلسطينية "سعسع"، التي صار اسمها "ساسا" الإسرائيلية. يصادم السكّان القدامى بالسكان الطارئين، الذين يحبّون المكان بشكل جنوني. لعرض موضوع الصراع، تقوم الكاميرا مراراً بحركة "بان" لعرض الطبيعة الخلابة في المكان المحبوب من السكّان الأصليين، ومن الوافدين أيضاً.

 

 

منح عيّوش الكلمة للطرفين كي يتحاورا عن بُعد. يُشاهد الإسرائيليون الفلسطينيين على شاشة حاسوب. الفيلم وثيقة صوتية، فيه وجوهٌ تتكلّم، وتُجيب عن سؤال مُحدّد: هل تعرف هذا المكان؟ يجيب الشاب الإسرائيلي بثقة: "طبعاً. إنّه مهد طفولتي". يحكي مستوطن متصهين كيف يستولي على هضبة ويحرسها بالقوّة مع أصدقائه، كي لا تستردّها الأسرة العربية البدوية. يُطرح عليه سؤالٌ عن 1948، فيقفز في إجابته إلى وقائع تعود إلى ألفي عام. يشعر المستوطن المؤدلج، بثقة ويقين مُقزز، من دون أنْ تساوره شكوكٌ، ويستنجد بالشرطة لدعم تصوّره. بينما يشعر شبّان آخرون بالتردّد في توصيف ما جرى، وفي تسميته. الأدلة الحجرية تستدير الكاميرا لتعرض المكان وسلطته على الشخصيات. هنا، يرصد نبيل عيّوش اختلاف ردود فعل الشبّان الإسرائيليين، والجامع بينهم أنّهم يفضّلون عدم الحديث عن الموضوع. كلّ سؤال أو تعريف، بالنسبة إليهم، فخٌ. الصمت يناسبهم. نقطة ضعفهم تظهر عندما تُبرز وثائق تعرض حال الأرض قبل استيلائهم عليها.

الأدلة الحجرية قائمة، وتفضح الظلم الذي تعرّض له سكّان المكان سابقاً، بينما تعتقد شابّة إسرائيلية أنّ الماضي كان عادلاً. كانت الشابة تتكلم باندفاعٍ يُثبت أنّ حكايات الماضي مزعجة.

الماضي يُنغّض أمان الحاضر. كانت تلك حال شابّة تُقلقها ضرورة تبرير وجودها هنا. شابٌ يبرّر ما يجري في فلسطين بسبب ما فعلته ألمانيا النازية بجدّته. شابّة أخرى تعتبر الجيش الإسرائيلي مؤسّسة لا أخلاقية.

يعرض "أرضي" ذكريات مريرة من مخيم "عين الحلوة". يتردّد لفظ سجن مراراً في مداخلات الفلسطينيين. كلّما عرف الشباب الإسرائيليون التفاصيل، شعروا بالصدمة، وحوّلوا نظراتهم بعيداً عن الكاميرا، فراراً من المأزق. يزعم الشباب الإسرائيليون أنّ اللاجئين وجدوا، غالباً، مكاناً آخر ليعيشوا فيه. بالنسبة إلى الفلسطينيين المنفيين، حين يسمعون مصطلح "الوطن البديل"، يُجيبون بتوتّر وقناعة راسخة: "فلسطين لا تُنسى، ولا بديل لها". بينما يستمع الشبان إلى الشيوخ الفلسطينيين، يُسمع في الخلفية صوت جرّافات، ثم ينغلق باب أسود في وجه الكاميرا.

مع وضع كهذا منذ 70 عاماً، كيف يستطيع الناس مكابدة الاستمرار في العيش، بعد كلّ هذا الذي جرى ويجري؟ جاء الجواب من صوت محمود درويش: "ونحن نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً". من هذا الحبّ، وُلد الجرح الفلسطيني واستمدّ بقاءه مفتوحاً بعد 74 عاماً. في كل المحطّات، فشل الرهان على استسلام الفلسطينيين، لأنّه رهانٌ مبني على قراءة غير واعية للتاريخ.

المساهمون