"تحت سماء دمشق": توثيق سينمائي بلغة مبسّطة

08 مارس 2023
3 من شابات "تحت سماء دمشق": مواجهة وقائع قاسية (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

5 شابات يُقرّرن كتابة مسرحية عن العنف المُمارَس ضد نساء سوريات، وتقديمها أمام جمهورٍ يُفترض به أنْ يهتمّ بموضوع كهذا. الكتابة تحتاج إلى معطيات وحكايات. العنف ذكوريّ، وحضوره في الاجتماع العربي قديمٌ، والحاضر يُزيده حدّة وتسلّطاً. الحكايات مروية على ألسنة مُعنَّفاتٍ، وبعض المرويّ يختلط بدموعٍ وقهرٍ، وبشيءٍ من تحدٍّ وحزم. نساء يعملن في مصنعٍ، وأخريات يُدخلهنّ أبٌ أو زوج أو أخ أو عمّ إلى مشفى الاضطرابات النفسية (وجوه بعض هؤلاء مخفيّ أمام الكاميرا). هناك أيضاً "جمعية إشارتي" للصُم ـ البُكم، وبعض صباياها معرّضات، هنّ أيضاً، لتحرّشٍ واغتصاب.

المرويّ يُشبه حكايات كثيرة في مدنٍ وبلدات عربية. "تحت سماء دمشق" (2023، 88 دقيقة)، المعروض في "بانوراما الأفلام الوثائقية" في الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، يجمع تلك الحكايات في نسقٍ مبسّط وواضح ومباشر، مُدخلاً في السياق بعض الذاتيّ، الذي تبوح به هبة خالد، كاتبة الفيلم ومخرجته إلى جانب طلال ديركي وعلي وجيه، وفاتحاً أفقاً أوسع في معاينة الحكاية الأصلية (العنف الذكوري ضد المرأة، لفظياً ومادياً)، إذْ يحدث "شيءٌ" ما لشابتين من الشابات الـ5، سيكون إفادةً سينمائية، رغم ضررٍ واقعيّ.

في لحظةٍ كهذه، يحدث تحوّلٌ في المسار الدرامي/السرديّ للنصّ والاشتغال البصريّين. "انسحاب" إليانا (سعد) في ذروة تحضير النصّ المسرحي سيطرح تساؤلات، بل "إشارات استفهام" كثيرة، كما تقول الراوية، قبل معرفتها (الراوية) السبب الفعلي للانسحاب. هذا يؤدّي إلى فصلٍ آخر مختلف، والاختلاف معقودٌ على البنية السينمائية/الدرامية/الفنية لـ"تحت سماء دمشق"، أي على كيفية مقاربة الحكاية الأصلية (العنف الذكوري)، من دون قطعٍ وتبديل، فالحاصل لاحقاً استكمالٌ لتلك الحكاية، وتفعيلٌ (لعلّه غير مقصود، فالحاصل لاحقاً ناشئ من الاشتغال على تحقيق الفيلم/المسرحية) لها.

تفاصيل عدّة تُروى وتُصوَّر، ولبعضها جمالية بصرية تُكمِل النصّ، وتشارك في بنائه الفني. إنانا (راشد) ستواجِه والديها، رفقة شقيقها، في مسائل ذاتية/شخصية وعامّة. الحرب السورية قائمةٌ (إنّها سببٌ أساسي لعدم تمكّن خالد وديركي من إنجاز الفيلم في دمشق، والاكتفاء بالاشتغال عليه من برلين، بينما علي وجيه مُقيم في المدينة)، وهذا كافٍ لنقاشٍ، فيه حدّة وانفعال (إنانا)، عن الثورة والحرب والسلطة/النظام. أمّا الذاتي/الشخصيّ، فحاصلٌ لاحقاً، لأنّ إنانا تختار خروجاً لها من المنزل/العائلة. لقطات مختلفة تشي بمعانٍ، تدعم المرويّ في الحكايات المؤلمة: انطفاء أضواء المصنع، بعد انتهاء امرأة من سرد حكايتها؛ لقطة عامة لمقبرةٍ؛ الدجاج و"نَتْفُه". هذه نماذج ترتبط بالمسائل المطروحة، كتفسيرٍ بصري لها، أو كدلائل فنية مُتقنة الصُنعة للحكاية الأصلية.

 

 

أبنية مهدّمة تظهر أكثر من مرّة أمام الكاميرا (رائد صنديد)، من دون أنْ تُحاصَر بالقول إنّ الحرب في سورية تهدم وتقتل فقط. الأبنية غير المتداعية، رغم الدمار الهائل فيها، تعكس خراباً حاصلاً في نفوس نساء وأرواحهنّ، جرّاء عنف يتمثّل بالضرب والتحرّش الجنسي والإساءات المتكرّرة، والحرمان من أبناء وبنات، وتعنيفهم أيضاً. لكنّ نفوساً وأرواحاً كهذه غير متداعية، رغم حجم العنف وآثاره القاتلة، ما يؤكّد، بصرياً على الأقلّ، التحدّي والحزم اللذين "تتمتّع" بهما نساء معنّفات. خراب الأبنية/المدن في سورية مرآة تعكس خراب نساءٍ يعشن أهوال الحرب نفسها، وآلام حربٍ أخرى (العنف الذكوري، التحرّش الجنسي، الاستغلال الجسدي والمعنوي)، لن تكون أخفّ حدّة منها. للمقبرة صوتٌ أيضاً، وإنْ يكن صامتاً. فالحرب السورية تفتح قبوراً كثيرة، والحرب الأخرى تودي، أحياناً، بحياة نساءٍ مُعنّفات.

يُتيح "تحت سماء دمشق" تفسيرات مختلفة، تنبثق من الحكاية الأصلية، وتتكامل معها. التوثيق (جمع الحكايات من نسائها أنفسهنّ، أو من بعضهنّ على الأقلّ) ينفلش على مساحة الصورة السينمائية في مقاربة عمقٍ بشريّ في آلامه وتمزّقاته ومخاوفه وتحدّياته. تحويل المرويّ إلى نصّ مسرحيّ تمرينٌ على إدخال فنٍّ (المسرح) في آخر (الفيلم الوثائقي). هذان الاشتغالان الفنّيان (المسرحية والوثائقيّ) يمتلكان رفاهية الابتكار/الخيال، وإنْ تكن المادة السردية واقعية/حقيقية.

لن تكون هناك إعادة تمثيل/إعمال الخيال في وثائقيّ الثلاثي خالد وديركي ووجيه، كما يحصل أحياناً في أفلامٍ وثائقية، بعضها يستعين بالتحريك (إعمال الخيال) في اشتغالاته الفنية والجمالية والتوثيقية. فالمرويّ يُعيد تصوير وقائع، كما تعيشها نساء معنّفات يظهرن في الفيلم، والتمثيل المسرحي مُختَزل للغاية، فالوقائع تلك تتفوّق على كلّ تمثيلٍ، لقدرتها الفائقة على "تمثيل" نفسها، من دون حاجة إلى أداء أو ابتكار/خيال.

انكشاف الحاصل مع الشابتين يترافق وخروج الشابات جميعهنّ من دمشق إلى لبنان. هناك حاجة إلى مساحةٍ أهدأ لفهم الحاصل نفسه. النساء المعنّفات في دمشق يُصبحن أولئك الشابات في لبنان، اللواتي (الشابات) سيروين حكاياتهنّ، التي "ربما" تكون امتداداً لحكايات نساء دمشق. انقلاب السرد، إنْ يصحّ وصف التبدّل انقلاباً، يُستفاد منه، سينمائياً وسردياً وجمالياً، بأنْ يُكمل المخرجون الـ3 توثيقهم الألم والقهر والتسلّط الذكوري والتحدّي النسائي، عبر حكايات الشابات وانفعالاتهنّ ومواقفهنّ وقلقهنّ ونظراتهنّ وأحاسيسهنّ وتفكيرهنّ.

"تحت سماء دمشق" قابلٌ لمزيدٍ من نقاشٍ، غير متوقّف عند حكايته الأصلية فقط، لامتلاكه بساطة وابتعاداً عن أي فذلكة بصرية (وهذا مهمّ سينمائياً)، ولاحتوائه على حكاياتٍ يجب توثيق مثيلاتها أكثر فأكثر. حكايات تبدأ مع ألم الممثلة صباح السالم، المعرّضة لعنفٍ ذكوري يؤدّي بها إلى السجن 15 عاماً، والفيلم ينتهي بها ومعها أيضاً، جالسةً أمام المرآة كأنّها تواجه نفسها وماضيها.

المساهمون