تتويج تشارلز الثالث... الزيت المقدّس والتاج ينتظران الملك

05 مايو 2023
استعدادات أمنية لمراسم التتويج (الأناضول)
+ الخط -

يتجاوز تتويج الملك تشارلز الثالث المشهد الاحتفالي، ليشكّل لحظة حاسمة في تاريخ النظام الملكي وبريطانيا ككل. تمتد تداعياته الأوسع على دور المملكة المتحدة في المسرح العالمي، كما يعيد التأكيد على أهمية الملكية والتراث والإنجازات الثقافية، ويحدّد سمة عهد جديد من القيادة والمسؤولية في واحدة من أعرق الممالك في العالم التي لعبت دوراً مهماً في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.

تجرى الاستعدادات للتتويج منذ شهور، مع فريق من الخبراء والمسؤولين يعملون بلا كلل ولا ملل لضمان سير حفل التتويج بسلاسة الذي يتضمّن أموراً معقدة ومتعدّدة الأوجه، منها مسح الملك بالزيت المقدس وتقديم التاج وقسم الولاء وخدمة التاج. ومن المتوقع أن يشاهد الحدث ملايين الأشخاص حول العالم.

تاريخياً، كانت مراسم التتويج مرحلة ضرورية ليصبح الفرد ملكاً. فهي توضح بشكل لا ريب فيه من هو الملك حتى تدحر المطالبين بالعرش المنافسين له، تفادياً لصراعات قد تُدخل البلاد في حرب أهلية في حال الفشل في تنصيب ملك في الوقت المناسب. أمّا اليوم، فيصبح ولي العهد ملكاً بموجب القانون، فور رحيل الملك أو الملكة، من دون الحاجة إلى التتويج.

لذلك، تولّى تشارلز الثالث العرش فعلياً في الثامن من سبتمبر/ أيلول 2022 بعد وفاة والدته الملكة إليزابيث الثانية. ولا يزال حفل التتويج الذي بدأ منذ أكثر من ألف عام لدى ملوك إنكلترا واسكتلندا وبريطانيا العظمى والمملكة المتحدة حدثاً بالغ الأهمية في البلاد. ويعدّ التاج البريطاني النظام الملكي الأوروبي الوحيد الذي لا يزال يمارس عملية التتويج، بالإضافة إلى عدد من الدول الآسيوية والأفريقية.

سيتوّج الملك تشارلز الثالث في السادس من هذا الشهر، وسيبدأ الحفل بموكب مهيب ينطلق من قصر باكنغهام إلى دير وستمنستر أبي الذي أصبح منذ عام 1066 مكاناً لتتويج ملوك وملكات بريطانيا. وسيكون الملك الأربعين الذي يتوّج في كنيسة وستمنستر، وكان أولهم ويليام الفاتح. وسترافق هذا الموكب فرق عسكرية وفرسان خيالة وعناصر احتفالية أخرى، ما يوفر مشهداً رائعاً سيشهده عشرات الآلاف من المهنئين الذين يصطفون في شوارع لندن.

عند وصول الملك الجديد إلى الدير، سيتربع على كرسي سانت إدوارد، الذي صنع عام 1300 لإدوارد الأول. ويُمسح بعدها بالزيت المقدس الذي صنع هذه المرة لتشارلز الثالث من خليط من زيوت الزيتون من جبل الزيتون الذي يقع بالقرب من سرداب جدة الأميرة أليس، ليكون جزءاً من العناصر التي استخدمت لصناعة زيت الميرون، الذي كرّس في القدس.

وتعد المسحة بالزيت عادة قديمة تتمثل بدهن الملوك بمزيج سرّي منها، باستخدام "ملعقة التتويج" نفسها منذ عام 1349. وسيتوّج بتاج القديس إدوارد الذي صنع عام 1661 واستخدم في تتويج كل ملوك بريطانيا منذ تشارلز الثاني. ويبلغ وزنه أربعة أرطال و12 أونصة، أي نحو 2.2 كيلوغرام، وهو مصنوع من الذهب الخالص. كذلك سيرتدي الملك تشارلز الثالث رداء الدولة القرمزي للملك جورج السادس.

ووفقاً لقصر باكنغهام، سيعيد الملك استخدام العديد من الملابس التاريخية التي كان يرتديها الملوك السابقون في مراسم التتويج الماضية، خلال خدمة يوم السبت من أجل "مصالح الاستدامة والكفاءة". وعقب إتمام العناصر الرئيسية لتتويج الملك تشارلز الثالث التي تشمل الاعتراف والقسم والمسحة والتنصيب والتكريم، يبدأ تتويج زوجته الملكة كاميلا.

ويتضمّن الحفل عروضاً موسيقية وقراءات وبركات من القادة الدينيين، بما في ذلك رئيس أساقفة كانتربري. ومن الطبيعي أن تساهم هذه العناصر في التأكيد على أهمية المناسبة وإبراز الدور المهم الذي يلعبه النظام الملكي في تاريخ البلد وهويته.

مع مرور الزمن، تبدّلت الأدوار التي تلعبها الملكية في بريطانيا. ومع ذلك، لا تزال مستمرّة في لعب دور مهم في البلاد، بالرغم من أنّها لم تعد تمارس أي دور سياسي أو تنفيذي في الوقت الحالي. ويتولى الملك بصفته رئيساً للدولة واجبات دستورية وتمثيلية تطوّرت على مدى ألف عام.

واجهت الملكية البريطانية عدداً من التحديات عبر تاريخها، أبرزها الاضطرابات السياسية التي أدّت إلى فترات من التوتر بين النظام الملكي والحكومة. كما كان الدين حينها أيضاً مصدراً للصراعات أثناء الإصلاح عندما أصبحت إنكلترا دولة بروتستانتية.

وبدورها، شكّلت قضية الخلافة مشكلة دائمة للنظام الملكي، ولا سيما في الحالات التي غاب عنها خليفة واضح، أو حين يكون الخليفة مثيراً للجدل. وأدى ذلك إلى خلافات وصراعات على السلطة، حيث تنافست مختلف الفصائل للسيطرة على العرش. ففي أواخر القرن الخامس عشر، غرقت إنكلترا في سلسلة من الحروب الأهلية المعروفة باسم حروب الوردتين التي دارت بين فرعين متنافسين في العائلة المالكة، وهما بيت لانكستر وبيت يورك. وهدّد هذا الصراع بتمزيق النظام الملكي ونتج عنه صعود سلالة تيودور.

وفي القرن السابع عشر، تورطت إنكلترا في حرب أهلية بين أنصار الملك تشارلز الأول والبرلمانيين. أدى هذا الصراع في النهاية إلى إعدام الملك وإنشاء الكومنولث وهي جمهورية استمرت حتى استعادة الملكية عام 1660.

أمّا اليوم، فتواجه الملكية تحدّيات من نوع آخر، منها أقليّة تدافع عن إلغائها وإنشاء جمهورية، وقد تزداد هذه المطالب في عهد الملك تشارلز الثالث، خصوصاً في ظلّ وجود خلافات وفضائح تتعلق بأفراد من العائلة المالكة. ويمكن أن يهدد الاضطراب السياسي النظام الملكي، في حال حدثت تغييرات كبيرة في المشهد السياسي أو تحوّلات في الرأي العام ضد العائلة المالكة.

ومع استمرار تطور القيم والمعايير المجتمعية، قد يواجه النظام الملكي تحديات في التكيف مع هذه التغييرات. ويمكن أن يشمل ذلك قضايا تتعلق بالتنوع والشمول وحماية البيئة أو غيرها من قضايا العدالة الاجتماعية. لذلك، شهدنا منذ فترة تصريحات من قصر باكنغهام تشدّد على إجراء تعديلات حديثة في عهد الملك تشارلز الثالث، وأنّ التتويج إنّما يسعى إلى عكس دوره اليوم والتطلّع إلى المستقبل، مع تجذّره في التقاليد القديمة.

ومع ذلك، تستمرّ التظاهرات المناهضة للملكية، في البلاد وتتكرر على مسامعنا هتافات: "ليس مَلِكي". كما تخطط مجموعة "الجمهورية" المناهضة للنظام الملكي لمظاهراتها في السادس من مايو أيضاً، في ظلّ تساؤلات حول الميزانية غير المعلنة للحدث التي تبلغ ملايين الجنيهات الإسترلينية في حين تواجه البلاد أزمة في تكاليف المعيشة. ولا بدّ من الإشارة إلى ما سيجلبه هذا التتويج من فوائد اقتصادية كبيرة، وتنشيط حركة السوق واستقطابه للسياح من جميع أنحاء العالم وتغطية إعلامية ضخمة.

ولأول مرة بعد جائحة كوفيد-19 والأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد، سيعيش البريطانيون لحظة فرح في شوارع المملكة ومدنها، حيث سيضع هذا التتويج التاريخي الذي يحدث لأول مرة في بريطانيا في القرن الواحد والعشرين البلاد في دائرة الضوء.

المساهمون