البيوت أسرار:مآزق التأليف الدرامي مرّة أخرى

14 فبراير 2021
مشهد من المسلسل (يوتيوب)
+ الخط -

ثمّة ملاحظات كثيرة تُتيحها مُشاهدة المسلسل المغربي الجديد "البيوت أسرار" (2021)، للمُخرج علاء أكعبون، منها أنّ لا أحد ينكر الطفرة التقنية التي باتت تحظى بها المسلسلات الدرامية المغربيّة في الـ5 سنوات الأخيرة. غير أنّ الرهان على التقنية وما تمنحه للمسلسلات الدرامية من استسهال في صياغة معالم بصرية، غير كاف ليكون العمل الدرامي جيداً. 
سوء الفهم هذا، يُفاقم البلاهة ويجعل الكثير من المخرجين يراهنون على هذا البُعد التقني الصرف والمُتمثّل في الكاميرا والمونتاج والإكسسوارات والمُؤثّرات الصوتية والبصرية. هذا عاملٌ أساسي ومهم. لكن ليس بالطريقة التي تغدو فيها الدراما المغربيّة وكانّها وليدة وسائط بصرية أو استديوهات، في غياب تام للمُخرج ودوره في اجتراح صورة درامية عن مجتمع يئن تحت سُلطة قاهرة ووقائع مغربيّة مُتشظيّة ومُنفلتة من قبضة المنطق. 

البؤس السياسي الذي يعيشه البلد، لا أحد ينتبه إليه من هؤلاء المخرجين. مع العلم أنّ علاء أكعبون قد اهتم بهذا الجانب في مسلسله "الزعيمة" (2019)، ولو بطريقة هشّة، لكنّها تبقى مُهمّة على مستوى طرح بعض الأسئلة حول مكر السياسة وبلادة الأحزاب التي تُحيط بها. في مقابل أن تكرار موضوعات اجتماعية ووجوه تلفزيونية بعينها، أمرٌ ممّل ولا يخدم مشروع الدراما بالمغرب، ولا يستطيع أن يفتح لها آفاقاً جديدة على مستوى النقد والتفكير والتخييل، أمام نماذج محتشمة أضحت تطبع صورتها داخل العالم العربي.

وهذا الأمر تُساهم فيه عوامل عدّة، لا ترتبط بمسألة اللهجة (اللّغة المحكيّة) غير المفهومة بالنسبة إلى بلدان عربيّة أخرى، كما تتجاوز عنصر التوزيع، لأنّ ضعف وهزالة الإنتاج الدرامي، يحتكمان بالضبط إلى عوامل داخلية وليست برانية عن فعل الإبداع، فهي معطوبة في أساسها وفي مُتخيّلها. لن ندّعي أنّ الدراما المُشتركة مع بلدان عربيّة أخرى، قد تُفيد صورها وتُحقّق لها نهضة قوية على مستوى بنيانها وصناعتها الفنية، بحكم أنّ التلفزيون عامة، يبقى مجرد وسيط بصري ترفيهي، مهما اجتهد في صناعة مسلسلات درامية، تنضح بكثافة القول وقوّة التخييل. وهو أمرٌ يُؤكّده علاء أكعبون في مسلسله "البيوت أسرار"، من خلال حكاية اجتماعية مألوفة أدبياً ومستساغة بصرياً بالنسبة لمُجتمع مغربي، غدت حياته اليومية منكوبة اجتماعياً ونفسياً وتتجاوز قصصه وحكاياته الخيال السينمائي والدرامي، حتى تغدو ضرباً من الخيال، تتحكّم فيه هشاشة العمل وصوره وعدم قدرته على التقاط تفاصيل صغيرة من حياة الناس وإعادة تخييلها داخل قالب درامي، بقدر ما يتماهى مع الواقع، ينفصل عنه في آن واحد.

عناصر جمالية منفلتة ناتجة عن ضعف السيناريو 

في الحلقة الأولى من "البيوت أسرار"، تتوالى الصور بعشوائية فجّة. شخصياتٌ تدخل وأخرى تخرج، دون أيّ متعة بصرية. لكن سوء تنظيم الشخصيات هذا وعدم استقرارها داخل نسج الحكي، بدا مُتجاوزاً في الحلقة الثانية، التي أضحت فيها الصورة أكثر تجذراً في الاجتماع المغاربي، وهي تُرتّق سلوكات وتُفجّر أعطاباً نفسية واجتماعية، تنخر واقع المجتمع المغربي. النيّة في خلق صورة درامية، تتبدّى جيداً في طريقة التصوير واللعب بالمُفردات البصرية، مع أنّها غير كافية في استلهام واقع يحبل بأعطاب ومآزق. العنف الرمزي حاضر ويتخذ أبعاداً مُتشعّبة، تبدأ من تحايل مدير المصنع على دفع مستحقات الضرّر الذي أصاب الطفل، وينتهي بتعنيف المرأة رمزياً وعدم تقديم حلول مشروعة لها لمُواجهة حملها. لكنّ المُشكل الرئيسي، يكمن في كون هذه القصص الجانبية، التي تتفرّع عن خيط القصّة الأصل، لا تعمل على تثمينها وتغذيتها بصرياً، بقدرما تُشكّل نشازاً بالنسبة للحكاية.

إنّ هذه العناصر الجمالية المُنفلتة من المسلسل والناتجة بالأساس عن هشاشة السيناريو (سعيدة باعدي وحفيظة باعدي)، وهزالته، أضعفت الصورة الدرامية وحمولاتها النفسية والاجتماعية، وجعلتها مُسطّحة، بالنظر إلى المجهودات المبذولة على مستوى صناعة الصورة وجودة الأداء. بحيث أنّ ضعف النصّ ناتجٌ بالأساس من عدم قدرته على أن يكون مرآة تعكس ما يروج في المجتمع من شروخ وتصدّعات، نتيجة غياب التخييل والارتكان إلى حوار تلقائي واقعي، لا يتضمن حتى ذرة من الإبداع. إنّ هذا الاستسهال في كتابة سيناريو، لا يرتبط بـ"البيوت أسرار"، وإنّما يبقى المُشكل الأساس، الذي يعترض سير وتقدّم الدراما المغربيّة وعدم قدرتها على طرق موضوعات جديدة، ليس بالضرورة أن تكون أكثر انغماساً في الواقع العربي، ولكنّ على الأقلّ، أن تُقدّم صورة شذرية عن هذا الواقع، بحيث أنّ الصورة الدرامية لا يُمكن التفكير فيها فقط، وإنّما تُدرك وتُعطي الحقّ للمُتفرّج في مواصلة بناء ونسج عملية المعنى وفق ذائقته الفنية والجمالية. إذ إنّ القدرة على خلق صورة درامية مزدوجة تمزج الواقع بالخيال، دون أن تُحدث أيّ نشاز داخل أنماط الصورة، هي التي تجعل من المسلسل الدرامي عملاً إبداعياً وتخييلياً، لا أن تغدو صوره مُرتبكة وتقريرية وباهتة في نقل الأحداث وقصصها المُتخيّلة. 

هذا حال مسلسل "البيوت أسرار" لعلاء أكعبون وصورة الكثير من التجارب الدراميّة بالمغرب، التي لا تعمل على الحفر في بنية المكبوت المغربي سياسياً واجتماعياً وثقافياً، في غياب تامّ للدور الذي يُمكن أن يلعبه التلفزيون المغربي في الحد من هذه الخروقات الفنية والاستسهال الذي أصابها على مستوى التأليف والتخييل ورفض ما يُقدّم لها من مشاريع وسيناريوهات مُبتذلة عن أحداث ووقائع، يدّعي المُؤلّف والمُخرج في المغرب أنّ لها علاقة وطيدة بالتغيّرات التي طاولت البلد اجتماعياً وسياسياً.
 
"البيوت أسرار" يبقى محاولة متواضعة على مستوى التخييل الدرامي، لكن أهميّته تبرز انطلاقاً من عنصر الاهتمام بجماليّات الصورة وتبئير المَشاهد وقوّة الأداء لدى بعض الشخصيات، مثل: محمد خيي، سعيدة باعدي، ثريا العلوي، سعيد باي. فهؤلاء من منطق الخبرة، التي اكتسبوها في تعاملهم مع مسلسلات درامية، أُنتجت منذ بداية الألفية الجديدة، ساهموا في بروز هذا العنصر الفني المُتمثّل في الأداء. لكن المفاجأة في هذا المسلسل هي قدرة علاء أكعبون في المُراهنة والدفع بوجوه مغربيّة جديدة (هاجر مصدوقي، يسرى بوحموش، أنيسة لعناية، عبد الفتاح عشيق)، إلى مجال المسلسلات الدرامية المُحتكرة منذ سنوات طويلة. هذا الخرق على مستوى الكاستينغ، شكّل عنصراً مُهمّاً للمسلسل وتقديمه بحلّة جديدة وطريقة أكثر معاصرة، وخاصّة أنّ بعض هذه الوجوه التلفزيونيّة قادمة من المجال المسرحي (الممثل عبد الفتاح عشيق)، ولها خبرة في التعامل والتفاعل مع الأدوار التي تُسند إليها، بسبب ما راكمته من تجارب فنية، حتماً ستُفيد الدراما المغربيّة وتخرجها من هذا الابتذال البصري والاحتكار الفني، الذي طبع أعمالها منذ تسعينيات القرن الـ20 وجعل كل شخص يتمتّع بنفوذ رمزي يعمل على اقتحام عالم التلفزيون ومعه التأليف الدرامي.

المساهمون