اقتباسات سينمائية: أين البراعة وأين الإخفاق؟

اقتباسات سينمائية: أين البراعة وأين الإخفاق؟

24 اغسطس 2022
سلمان رشدي: هل يروي "جوزف أنطون" سيرته سينمائياً؟ (ليوناردو ثندامو/Getty)
+ الخط -

 

رواية "جوزف أنطون، مذكّرات" (2012)، للبريطاني سلمان رشدي، مُثيرةٌ قراءتُها إلى حدّ تخيّلها فيلماً سينمائيّاً. نصّها، المنضوي في إطار السيرة الذاتية لكاتبها، مليءٌ بصُوَر ومشاهد، كافية لتحويلها إلى فيلمٍ، ينفتح على مسائل عدّة: الهوية، السياسة، الرقابات المتنوّعة، العلاقات الإنسانية والعاطفية، السلطة (الأمنية والقضائية والاجتماعية، والذاتية أيضاً)، المشاعر، الخيانة، الحبّ، المرض، الصداقة، الكتابة، الكفاح، حرية التخيّل والتعبير، إلخ.

هذا كلّه منبثقٌ من الفتوى الخمينية بإهدار دم سلمان رشدي (14 فبراير/شباط 1989)، بسبب "الآيات الشيطانية" (1988). الرواية/السيرة (جوزف أنطون اسم يستخدمه رشدي بعد إصدار الفتوى) تبدأ لحظة تلقّي المَرويّ عنه (هناك راوٍ يسرد حكاية كاتب) نبأ الفتوى، التي تُغيِّر حياته كلّياً، وتكشف أمامه أصالة أناسٍ، ودناءة آخرين. عنف الفتوى، التي تُدخل هدفَها في حياةٍ مليئة بمخاطر ومخاوف وقلق وآلامٍ، في الروح والنفس أكثر من الجسد، لن يكون أقسى من عنف أفرادٍ، بعضهم أدباء وشعراء ومثقفون وصحافيون، يواجهونه بشراسة، لأسبابٍ سياسية واقتصادية وتجارية، أو لمصالح داخلية، معنية بصراعات وتجاذبات.

كلّ فقرة من الرواية ("جوزف أنطون، سيرة ذاتية"، الترجمة العربية لأسامة إسبر، منشورات الجمل، بيروت ـ بغداد، الطبعة الأولى، 2021) محمّلة بصُور سينمائية، لما في أسلوب الكتابة من قدرة على تصوير لحظة أو حالة أو انفعال أو علاقة أو موقف، كأنّ أداةَ الكتابة كاميرا تلتقط المُبَاشَر والمخفيّ، كاشفةً المخبّأ، وواضعةً إياه في مستوى واحد مع المرئيّ، كتابة وتحليلاً وتفكيكاً لأحوال اجتماع ومصالح وأهواء، في بريطانيا، كما في دول أوروبية وأميركية وآسيوية.

هذا غير منوط بـ"جوزف أنطون" فقط. روايات سابقة لسلمان رشدي نفسه، كـ"أطفال منتصف الليل" (1981) و"العار" (1983)، تمنح الصناعة السينمائية مفردات لغة الصورة، وتمتلك حِرَفية توليفٍ وتصوير، تتساوى وحِرفية سردٍ يمزج مسائل حياتية وتاريخية ومعرفية بأسئلةٍ عن الهوية والعلاقات والراهن. رموز تُحيل إلى شخصيات أسطورية وواقعية، وحكايات عن الآنيّ مُسجّلة/مُصوّرة كأحداث وأفعال حاصلة في أزمنةٍ وفضاءات مختلفة.

لكنْ، أيُمكن لروايةٍ، تحثّ على تخيّلٍ سينمائيّ لمساراتها وشخصياتها ومرويّاتها وانفعالاتها وأقوالها، أنْ تُصبح فيلماً سينمائياً، يمتلك براعة التخييل والاشتغال، بتحويله المكتوب (وإنْ يكن المكتوبُ أشبه بمُصوَّر، أحياناً) إلى متتاليات سردية بصرية، مُثيرة لمتعة المشاهدة، ومُحرِّضة على تفكير وتنقيب وتساؤلات؟

تاريخ الفنّ السابع مليء باقتباسات سينمائية لروايات وكتبٍ مختلفة، من دون أنْ يكون كلّ اقتباسٍ إبداعاً أو تُحفة. لا إجابة حاسمة، فكلّ اقتباسٍ لرواية/كتاب يختلف عن اقتباس رواية/كتاب آخر، وكلّ اقتباسٍ لرواية/كتاب يختلف عن اقتباس آخر للرواية/الكتاب نفسه. روايات عدّة عصيّةٌ على أي اقتباس، وأفلامٌ كثيرة تتفوّق، بجمالياتها وحِرفيّتها وبراعة اشتغالاتها، على روايات تُقتَبَس منها. روايات مُثيرة لمتعة القراءة/المشاهدة، غير مُقتَبَسة أبداً، وهذا عائدٌ إلى كسلٍ أو تردّد أو عدم اهتمام، أو إلى غياب إنتاج وتصوّرات.

 

موقف
التحديثات الحية

 

"جوزف أنطون" تُذكِّر، بما فيها من صُور سينمائية، بثلاثية "بيروت مدينة العالم" (2014، 2015، 2016) للّبناني ربيع جابر، مثلاً، التي تُذكِّر بـ"عصابات نيويورك" (2002)، رائعة مارتن سكورسيزي عن تأسيس نيويورك الحديثة. ثلاثية مرسومة، كالغالبية الساحقة من روايات جابر، بدقّة ومهارة، وبلغة قريبة جداً من فنّ التصوير السينمائي، بسردها حكاية بيروت، والتأسيس الحديث لها. شخصياتها الروائية واقعيةٌ، والأمكنة موصوفةٌ إلى حدّ رؤيتها بالعين والقلب والروح، وانفعالات ناسها وعلاقاتهم تمسّ وتراً أو أكثر، فيُثير المسُّ إحساساً بأنّ الانفعالات والعلاقات ذاتية/شخصية، وحيّة. رغم هذا، يُلحّ السؤال نفسه: أهناك من يتمكّن من صُنع فيلمٍ يخرج من الرواية إلى ما هو أجمل منها وأبرع وأعمق؟ أو إلى ما يُساويها جمالاً وبراعةً وعمقاً، على الأقل؟

مخرجون/مخرجات لبنانيون وعرب يُنجزون أفلاماً عدّة مُثيرة لاهتمام ومتعة، بما فيها من اشتغالات وتساؤلات وجماليات. لكنّ السؤال نفسه مُلحّ، ومنه ينبثق سؤال آخر: أهناك مُنتج يتجرّأ على خوض مغامرة اقتباس ثلاثية "بيروت" مثلاً، أو غيرها من الروايات العربية، الحديثة والقديمة؟ علاقة السينما اللبنانية بالرواية، اللبنانية والعربية على الأقلّ، فاترة للغاية. هذا سؤال يُفترض به أنْ يستدعي نقاشاً مطلوباً.

تجربة "باب الشمس" ماثلةٌ بدورها: فيلمٌ (2004) يُنجزه المصري يُسري نصرالله، مُقتبساً إياه من رواية (1998) للّبناني الياس خوري، المُشارك مع اللبناني محمد سويد في كتابة السيناريو. رواية تستعيد أحداثاً تاريخية بعيون أفرادٍ ومشاعرهم واختباراتهم وتحدّياتهم، وفيلمٌ (جزآن)، تُنتجه جهات أوروبية (فرنسا وبلجيكا والدنمارك) وعربية (مصر والمغرب)، يتماهى مع الرواية وروحها وتفاصيلها، صانعاً من الصُور مرايا تعكس ذواتٍ وأحوالاً وخبرياتٍ.

الإنتاج السينمائي المصري مهتمّ بروايات مصرية، منذ البدايات الأولى لصناعة السينما في القاهرة. الأمثلة الواردة محاولة لاستعادة نقاشٍ، يتساءل، في فقرة منه على الأقل، عن سبب الابتعاد عن روايات كهذه، رغم أنّ الإجابة، هنا، واضحة: لا يتجرّأ إنتاجٌ عربيّ على اقتباس رواياتٍ، تستحقّ أنْ تُقرأ، لمضمونها الأخّاذ، وللغتها السينمائية أحياناً. غربياً، يكاد السؤال يختفي، فالإنتاج معنيّ، أحياناً، برواياتٍ كهذه، والإقدام على الاقتباس مُتعلّق بمسائل عملية، غالباً، وبمصالح وعلاقات ولحظات راهنة.

المساهمون