الإيقاع في الموسيقى العربية: حجر الزاوية الذي تخبّئه الأغاني

08 مارس 2020
خفيف ثقيل شنبر ومربع.. وكذا ورشان فاخت ومحجر (Getty)
+ الخط -
على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، انتشر مقطع فيديو من برنامج "كان زمان"، يحاور فيه الفنان المصري سمير صبري، عازف الإيقاع محمد العربي، الذي تحدث عن ذكرياته في فرقة أم كلثوم التي التحق بها عام 1966، وتحديداً مع إطلاق قصيدة "الأطلال".

خلال الفيديو، روى العربي واقعة جرت بينه وبين الموسيقار محمد عبد الوهاب، أثناء بروفات فرقة أم كلثوم على لحن قصيدة "أغداً ألقاك"، التي شدت بها سيدة الغناء لأول مرة في مايو/ أيار عام 1971. عزف العربي المقطع كما وضعه عبد الوهاب، جملة بسيطة من إيقاع "اللف" أو "الملفوف" ووزنه 4/8، ثم أوضح أنه اقترح على موسيقار الأجيال ملء هذه المساحة بإيقاع مركب، عزفه العربي، فجاء وزنه 12/8. يشير العربي إلى أن عبد الوهاب سعد جداً بالجملة الإيقاعية المقترحة، واعتمدها بدلاً من جملته الأصلية.

حقق الفيديو انتشاراً واسعاً، وكان سبباً للفت انتباه كثير من الشباب إلى أهمية الإيقاع في الألحان، وللدور المهم الذي يلعبه عازف الإيقاع داخل الفرقة الموسيقية. لأسباب عدة، لم يحظ الإيقاع وعازفوه باهتمام الأجيال الجديدة. لا يلقى عازف الإيقاع القدر نفسه من الاهتمام الذي توليه الجماهير لعازف عود أو قانون أو كمان أو ناي. ربما ساهمت الفكرة الشعبية عن "الطبال" في بخس الإيقاع وعازفيه ما يستحقون من اهتمام وعناية.

تتكون الموسيقى الشرقية من ركنين أساسين: المقامات، والإيقاعات، وبقدر إحاطة الملحن بالركنين، وتفننه في معالجتهما، تكون مكانته بين أهل الفن، ويتحدد موقعه بين الملحنين. الإيقاع يوسّع مساحة الإبداع الموسيقي. يكسب المقام ألواناً متعددة، ومذاقات مختلفة. مع الإيقاع، لا يعرف الملل طريقاً إلى المستمع، ومع الانتظام الإيقاعي تتجاوب الجوارح، وتتحرك الأطراف مع "الدمات" و"التكات".

تعرف الموسيقى الشرقية عشرات الأوزان الإيقاعية، تختلف في أشكالها طولاً وقصراً، بدءاً من إيقاع الفالس (3/4) ووصولاً إلى إيقاع الفتح (176/4)، ويمكن لمن يرصد تراثنا الغنائي والموسيقي، بكل أشكاله وقوالبه، أن يظفر بما يقارب المئة إيقاع. تمثل هذه الإيقاعات ثروة وثراء فنيين لا يكاد يعرف لهما نظير في غير الموسيقى الشرقية.

يدخل الإيقاع في معظم قوالب الغناء، فنجده في الموشح والقصيدة والدور والطقطوقة والمونولوج، وبالطبع يخلو منه الموال، وبعض المقاطع التي يقرّر الملحن أن تكون مرسلة، وكذلك يدخل في أغلب أشكال التأليف الآلي، مثل السماعي والبشرف واللونغا والسيرتو، وحتى التقاسيم التي يغلب عليها أن تكون مرسلة، منها ما هو موقع، يواكب فيه العازف الضغوط الإيقاعية، لتصبح قيداً اختيارياً لذيذاً على ارتجاله.



القصيدة والدور
مع نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تراجعت إلى حد كبير القصائد المرسلة، وازداد الاهتمام بالقصيدة الموقعة، ولا سيما عبر ألحان عبده الحامولي، لعل من أشهرها "أراك عصي الدمع"، التي غناها معظم المطربين الكبار في هذا العصر، ثم ازدادت القصيدة الموقعة رسوخاً بألحان الشيخ أبو العلا محمد، الذي ترك عدداً كبيراً من ألحان القصائد الفخمة، وكانت كلها على إيقاع الواحدة الكبيرة (4/4). وقد انتشرت هذه القصائد بعدما شدت بها أم كلثوم، وطبعتها شركات الأسطوانات، ومن أهم أمثلتها: "وحقك أنت المنى والطلب"، و"أمانا أيها القمر المطل"، و"أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا"، و"أكذب نفسي".

ومع هيمنة صوتي أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب على الغناء العربي منذ منتصف عقد العشرينيات من القرن الماضي، انمحت القصيدة المرسلة من المشهد الغنائي المصري، وسيطر الإيقاع على هذا القالب، بألحان عبد الوهاب ومحمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي، إلا أن بعض الأعمال التي تتضمن مقاطع مرسلة "أدليب" سواء في أول القصيدة أو في أجزائها، كما نجده في "الأطلال" أو "هذه ليلتي" على سبيل التمثيل.

وبالرغم من أن "الدور" يعد من أهم القوالب الكلاسيكية، إلا أن الملحنين استخدموا فيه عدداً محدوداً من الإيقاعات، غلب عليها المصمودي بنوعيه الكبير والصغير، والوحدة الكبيرة، والأقصاق (9/8) والنواخت (7/8)، والدارج (فالس). لم يكن الدور ساحة صالحة للاستعراض الإيقاعي، واعتاد الملحنون في معالجتهم له على عدد من الإيقاعات تكاد تعد على الأصابع.



الموشح
إذن، يبقى قالب الموشح المستودع الأكبر للإيقاعات العربية، حملت روائعه عشرات الإيقاعات، ومن خلال حفظه وتوريثه وصلتنا إيقاعات لم تكن لتصل أو يسمع بها أحد لولا وجود موشح أو أكثر يمثل شاهداً تلحينياً عملياً للإيقاع. كل موشح هو صندوق يحفظ مقامه وإيقاعه. وإذا كانت القصائد والطقاطيق في صورتها الحديثة المطولة تعرف بعض المقاطع المرسلة، فإن الموشح لا يعرف إرسالاً، فهو مقترن بالإيقاع في كل الأحوال، سواء منه ما كان قديماً معتقاً أو جديداً نسبياً، مجهول الملحن أو معروفه، قوي اللحن أم ضعيفه.

مع الموشح، يتعرف الدارس والمستمع على "الدارج" و"السماعي الثقيل" و"السربند" و"النواخت" و"المصمودي" بنوعيه، و"المربع" و"المخمس" و"الشنبر" و"المحجر" و"الفاخت" و"الظرافات" و"المدور" و"الورشان" و"الرهج" و"الأوفر" و"الزنجير" و"الدور الكبير" و"الرمل" و"الزرفكند" و"السماعي أقصاق" و"الدور الهندي"، وغيرها من الإيقاعات المختلفة في عدد وحداتها وفي سرعة ضربها.

وقد اعتنى القدماء من أئمة النهضة الموسيقية في مصر بالإيقاع عناية كبرى، تتجلى بوضوح بمجرد مطالعة مصدر مهم مثل "سفينة الملك ونفيسة الفلك" للشيخ محمد شهاب الدين (1795 - 1857)، وهو المرجع الأول والأقدم في فن الموشحات، حيث يذكر الشيخ المؤلف 17 إيقاعاً يقول إنها اشتهرت في مصر، ولا يكتفي بسردها نثراً، ولكنه ينظمها في أبيات على طريقة متون العلم الشرعي، ويستهلها قائلاً:

ضرب موازين الأغاني نظمتها.. وها هي يا ابن الفن بعد ستذكر
خفيف ثقيل شنبر ومربع.. وكذا ورشان فاخت ومحجر

فإذا انتقلنا إلى كتاب "الموسيقي الشرقي" لكامل الخلعي (1881 - 1931)، نجده يذكر أحياناً سبيل تلقيه لبعض الإيقاعات بطريقة تشبه تلقي العلوم الشرعية، التي تتطلب ذكر الإسناد وتبجيل التلميذ لشيخه، فيقول عند ذكره لإيقاع "الخفيف":

"هذا الوزن فقد من مصر، وفي سفينة المرحوم الأستاذ الشيخ شهاب موشح واحد عليه (بياتي)... أما نحن فقد تلقينا هذا الوزن على حضرة أستاذنا المرحوم الشيخ أحمد أبي خليل القباني، على موشحه العجم عشيران البديع الصناعة". وعند ذكره لإيقاع "الأربعة وعشرون" يقول: "هكذا تلقيناه على حضرة الأستاذ الشيخ محمد عبد الرحيم، الشهير بالمسلوب".

يشير الخلعي أحياناً إلى ندرة الإيقاع، فيقول عند ذكره لضرب "المحجر" إن "الموشح الوحيد المنظوم على هذا الوزن من أبدع الموشحات التي يتفاخر بها المصريون، وهو (زارني باهي المحيا) (السيكاه)، ولما فقد تلحينه الأصلي من مصر، وصار لا يعرفه إلا القليل، فقد تلقيته على أصله عن حضرة الأستاذ الشيخ إبراهيم المغربي، ملحن طرق المولد النبوي الشريف، التي يلقيها حضرة الأستاذ الشهير الشيخ إسماعيل سكر، الفريد في هذا الباب".

والمؤكد أن البون شاسع، والمسافة بعيدة، بين حديث الشيخ شهاب الدين عن الإيقاعات ونظمه أسماءها في أبيات، وأيضا حديث كامل الخلعي عن الإيقاع، والشيوخ الذين تلقاه عنهم، وذكرهم بألقاب الاحترام والتوقير، وبين الصورة الذهنية الشائعة في الوعي الشعبي عن "الطبال"، الذي لا ترفعه الجماهير إلى مكانة العواد أو القانونجي أو الكمنجاتي.

لكن يمكن أن نجد للجماهير عذرها في موقفها من الإيقاع وعازفيه، فمع انتهاء حقبة العشرينيات، كان الموشح قد أخذ طريقه إلى الأفول والضعف.. وكانت لزكريا أحمد محاولات في هذا الميدان لم ترق إلى مستوى أعمال الجيل السابق، وكان قطع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب صلتهما بالموشح أشبه بحكم إعدام على هذا القالب، فنسي تماما، وصارت الفرق الموسيقية تقدمه بأسلوب متحفي، باعتباره جزءا من الماضي الفني، وكانت النتيجة الحتمية لهذا الإهمال هي نسيان عدد كبير من الإيقاعات، ودوران الملحنين العرب في عدد محدود منها، مع تجنب متعمد للأوزان الكبيرة والمعقدة، التي تحتاج إلى عازفين في غاية التمكن، كادوا أن ينقرضوا، فلم يبق منهم إلا قليل، ينشغل ببروفات العزف، لأغان تتسم بالخفة والبساطة الإيقاعية.

عام 1950، سطر عازف الكمان المشتهر سامي الشوا كتابه "القواعد الفنية في الموسيقى الشرقية والغربية"، وعند تناوله لمسألة الإيقاعات، كتب يقول: "لكل موسيقى غربية كانت أم شرقية أوزان تسمى ضروب أو أصول.. وهذه الضروب في الموسيقى الشرقية كثيرة جدا، ومنها ما لا يوجد قياسه وعدد حركاته في أوزان الموسيقى الغربية".. لكننا كعادتنا، ومن خلال أعلام فنانينا، بددنا رصيدا فنيا ضخما، وقلصنا أنواع الإيقاع المستخدم في ألحاننا، فأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش لا تصلح لأن تكون مصدرا لتلقي الإيقاع، الذي انحسرت أشكاله المستخدمة، وتجنب الموسيقيون توريط أنفسهم وعازفي فرقهم في الإيقاعات المعقدة الطويلة.. ومع تضييع الإيقاع، أضعنا نصف موسيقانا.

المساهمون