أغاني العمّال في مرحلتين... إيه العبارة؟

01 مايو 2019
انحاز سيد درويش للعمال (Getty)
+ الخط -
لأن عيد العمال هذا العام يأتي متواكباً مع احتفالات متواصلة بمئوية ثورة 1919 في مصر، فإن الذاكرة الفنية لم يكن بمقدورها أن تكتفي بما اعتادته من اجترار أغاني العمال التي عرفتها حقبة ما بعد يوليو 1952، بل إن الذاكرة تحتم المقارنة بين أغاني العمال في المرحلتين: مرحلة الثورة الشعبية الكبرى عام 1919 وما قبلها وبعدها من سنوات، ومرحلة المد الناصري بعد يوليو 1952.

لا يحتاج الراصد إلى جهد كبير، لتأكيد أن سيد درويش كان أكبر وأهم وأشهر من غنى للعمال في حقبة الثورة الأولى، وقد جاءت كل أغانيه في هذا الميدان على لسان العمال، تصف شقاءهم ومعاناتهم، أو تعينهم على مواجهة التعب والفقر والشدائد، أما أغاني حقبة ما بعد يوليو، فقد اعتبرت العامل جندياً مجنداً لخدمة مشروع كبير، هو مشروع الدولة الناصرية، وتعاملت معه وكأنه ترس في آلة حكومية كبيرة، مع تمجيد لقيمة العمل المطلق، وتجاهل لمعاناة العمال، باعتبار أن "الثورة" أعطتهم حقوقهم التي حرمهم منها العهد الملكي.

ربما كانت أغنية "الشيالين" دالة بعنوانها وكلماتها على انحياز سيد درويش، فالرجل لا يغني للعمال في عمومهم، بل يختار أنواعاً بعينها من العمل، هي الأشد عنتاً وتعباً ليغني لأصحابها، وليكتب بديع خيري الكلمات على لسان هؤلاء الشيالين: "شد الحزام على وسطك غيره ما يفيدك، لا بد عن يوم برضه ويعدلها سيدك، إن كان شيل الحمول على ضهرك يكيدك، أهون عليك يا حر من مدة إيدك".

أما أغنيته "العربجية" فتتحدث عن معاناة أصحاب هذه المهنة مع "الشاويشية"، أي رجال الشرطة الذين هم ممثلو السلطة، وما يمارسونه من تضييق على أصحاب الكار. كانت أغاني سيد درويش ضمن مسرحيات غنائية من ألحانه، فـ"الشيالين" من أغنيات رواية "قولوله" وأغنيته "العمال" التي اشتهرت بمطلعها "الحلوة دي قامت تعجن" من مسرحية "ولو"، ومعها أغنية "السقايين"، وكلها من بطولة نجيب الريحاني، أما أغنية "العربجية" فمن مسرحية "ولسه" لفرقة علي الكسار. وقد مثلت طريقة العرض المسرحية هذه التحاماً مباشراً للجمهور بألحان سيد درويش، فكان أثرها كبيراً في تفجير الغضب الشعبي وثورة 1919.

في المقابل، يمثل محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ رأس مرحلة ما بعد يوليو 1952 في شكل الغناء للعمال وفي محتواه. في أغنية "الجيل الصاعد"، مثلاً، فإن العامل هو جزء من مجتمع يتكوّن من الجنود والطلاب والزراع والفنانين، وهو يعمل فقط لنهضة بلده: "عاش العامل يوم فكر يبني لبلده دار.. فيها مداخن طالع منها لهب النور والنار". وعندما يتكلم هذا العامل فإنه لا يشكو ولا يظهر معاناته، بل "وسمعناه بيقولها قوية.. ده إنتاجي وصنع إيديا.. حققنا بعون الله.. للشعب دعاه ومناه.. والخير زاد منا وفاض.. والفايض صدرناه".

أما عبد الحليم حافظ، فيبدأ سيره في الغناء العمالي المكرس لهيمنة الجماعة على الفرد العامل، بالغناء للزي الموحد لعمال المصانع، فينشد "بدلتي الزرقا" التي كتبها عبد الفتاح مصطفى، وفيها يقول: "بدلتي الزرقا لايقة فوق جسمي.. في جمال لونها مركبي واسمي". كانت أغاني عبد الحليم حافظ كلها تصب في سياق وضع الفرد في خدمة النظام والمجتمع: "مفيش أنا.. في إحنا يا صاحبي.. أنا وأنت.. وأنت وهو وهي.. علينا نعمل الاشتراكية".

أغاني تمجيد الأنظمة تنمحي بزوال الأنظمة، حتى لو تدثرت بالثناء على العمال أو الانحياز لهم. لذلك، مع انتهاء العهد الناصري، وتبدل السياسات في عهد أنور السادات، وبزوغ عصر الانفتاح، ظهر غناء عمالي يستعيد السمت "الدرويشي"، ويدوي بآلام العمال ومعاناتهم. هكذا، بكلمات أحمد فؤاد نجم، وغناء الشيخ إمام عيسى، استمعنا إلى "دلي الشيكارة.. جنب الشيكارة.. واقعد يا حُفني ولع لك سيجارة"؛ يحكي نجم على لسان عامل البناء كيف يبذل الجهد والتعب "وسط المعاول.. بنا ومناول"، لكن صاحب العمل "المقاول" يأكل حقه: "بس المقاول كلني بشطارة"، لتنتهي القصة بعبارة: "والعيشة مرة آخر مرارة".

أما في أغنية "يعيش أهل بلدي" فينصح الشيخ إمام العمال بكلمات نجم قائلاً: "يا غلبان بلدنا.. يا فلاح يا صانع .. يا شحم السواقي.. يا فحم المصانع.. يا منتج يا مُبهج يا آخر حلاوة.. ما تتعبش عقلك.. في شغل السياسة.. وشوف أنت شغلك.. بهمّة وحماسة". أما تعليل هذه النصيحة، فيوضحه نجم بكلمات مؤلمة، تتمثل في أن "رزقك ورزقي ورزق الكلاب.. دا موضوع مؤجل ليوم الحساب".


المساهمون