جمهورية فينيسيا المستقلّة: سحر وجزر وحوار

08 سبتمبر 2018
دولة يحتاج زائرها إلى أشهر عديدة لاكتشافها (Getty)
+ الخط -
كثيرون يُطلقون على المدينة الإيطالية فينيسيا اسم "البندقية". يعتبرون الكلمة تعريبًا للأصل قام به القدماء. لكن "البندقية" ليست عربية. ففينيسيا كانت من قبل مملكة ودوقية، ثم أصبحت جمهورية مستقلّة لأكثر من ألف عام. في تاريخها، حملت المدينة أسماء وأوصافًا عديدة: الجمهورية الهادئة، ملكة البحر الأدرياتيكي، الدوقية الجميلة (Buono Duchy بالإيطالية). تدريجيًا، ولتسهيل نطقها بالعربية، باتت "بونودوقي"، ثم "البندقية".
إذًا، الاسم مُجرّد تحريف خاطئ للنطق الإيطالي لأحد الأوصاف القديمة للمدينة، فاعتقد كثيرون أنه تعريبٌ لاسمها.
فينيسيا ليست فقط تلك المدينة العائمة التي تظهر في الصُوَر والأفلام، فهي منقسمة إلى جزأين: رئيسي كبير مُتّصل باليابسة (ميسترى). وآخر متمثّل بجزرها الـ118، وقنواتها المائية الرئيسية (150 تقريبًا)، وجسورها التي تعد بالمئات. ميسترى تبتعد عن فينيسيا 9 كلم، تُقطع المسافة بينهما بالقطار أو الحافلة. لذا، يُفضِّل راغبون في زيارتها ليوم واحد، أو ذوو الميزانيات المحدودة، البقاء في ميسترى، وزيارة فينيسيا ثم العودة في نهاية اليوم نفسه.



(Getty)

يعتقد كثيرون أن القنوات المائية المُحيطة بالمدينة وجزرها هي مياه البحر الأدرياتيكي. هذه مياه بُحيرة ضحلة، لا يتجاوز عمقها مترين اثنين، وتغلب عليها رائحة عطنة تجذب حشرات كثيرة، خاصة البعوض في ليالي الصيف، وهي غير صالحة للسباحة أبدًا. إنها "لاغون"، أي بحيرة مالحة ضحلة تُحاذي مياه البحر وتتصل به في غير موضع. هذا ينطبق بالضبط على فينيسيا وجزرها. لذا، فإنّ الاتصال الأساسي بالأدرياتيكي يمرّ عبر جزيرتي "الليدو" و"سانتا ماريا ديل ماري" اللتين، رغم استطالتهما ونحافتهما، تعملان كحاجز منيع يحمي معظم الجزر داخل الـ"لاغون".
إنهما شاطئا المدينة الرئيسيان الصالحان للسباحة. وهما الوحيدتان اللتان تمتلكان بناءً عصريًا وحديثًا مُتعدّد الطوابق، وشوارع مُمهَّدة، وإشارات مرور. هما الوحيدتان اللتان يُسمح فيهما بعبور السيارات الخاصّة وسيارات النقل العام. لكنهما، بشكلٍ عام، غير معروفتين كثيرًا للسيّاح الذين يعتقدون أن فينيسيا هي فقط سان ماركو ومحيطها، أي المدينة القديمة. قليلون يعرفون جزيرتي "مورانو" و"بورانو" ويزورانهما، ففي الأولى صناعة زجاج عالمي مشهور، وفي الثانية صناعة "دانتيل" فاخر.
التركيبة السكانية لفينيسيا فريدة ومُنفتحة منذ قرونٍ عديدة على كافة الأجناس والأعراق، نظرًا إلى موقعها واتصالها المُتفرّد بالعالم وجمالها الجذّاب وقوّتها التجارية. لم تكتف بكونها مدينة أو جمهورية حاضنة ومُستقبِلة، بل أفرزت وأنتجت وقدّمت للعالم الكثير، في العمارة والفن التشكيلي والموسيقى والرحلات الاستكشافية والطباعة، وغيرها. كانت مركزًا مهمّا للفنون، خصوصًا بين القرنين الـ13 والـ18.
أشهر ساحاتها هي سان ماركو، ببرجها الجرسيّ الذي يمكن من خلاله رؤية جزر عديدة، وبعض جوانب كاتدرائيتها المهيبة التي تحمل الاسم نفسه، وهي تحفة فنية فريدة من نوعها في أوروبا. على بعد أمتار، يقع أحد أشهر القصور قوطية الطراز في المدينة: "قصر الدوقي"، المُشيِّد عام 1340، حيث مقرّ الحكم والملوك والدوق على مرّ العصور، وأيضًا حيث يوجد السجن الموضوع فيه جياكومو كازانوفا، الذي تمكّن من الهرب منه بمهارة. هناك أيضًا "جسر التنهّدات"، الذي يصل القصر بالمحكمة القديمة، حيث كان السجناء ينقلون عبره من الأول إلى الثانية، لذا أطلق عليه اللورد بايرون هذا الاسم، تعبيرًا عن آلام المساجين والمعذّبين والمضطهدين. عام 1923، أصبح القصر نفسه أحد أشهر متاحف المدينة الـ11.
في ساحة سان ماركو أعرق وأشهر مقاهي المدينة: "مقهى فلوريان" (1720)، الذي يُعتبر الأقدم في العالم، والذي لم يُغلِق أبوابه إلى الآن، وهو يقع إلى جانب المقهى الباريسي "كافيه بروكوب". فيه كان يجلس الكتّاب الإيطاليون كارلو غولدوني وولفغانغ فون غوته وجياكومو كازانوفا (كان المقهى الوحيد الذي يسمح باستقبال النساء)، ثم لاحقًا اللورد بايرون ومارسيل بروست وتشارلز ديكينز. على بعد أمتار من الساحة، يقع "بار هاري"، الذي أسّسه جوزيبي سيبرياني عام 1931، والذي اكتسب سمعته من تردّد إرنست همنغواي عليه أثناء كتابته رواية "عبر النهر وباتجاه الأشجار". مشاهير آخرون تردّدوا عليه أيضًا، أمثال تشارلي شابلن وألفريد هيتشكوك وترومان كابوت والبارون روتشيلد وأورسون ويلز ووودي آلن، بالإضافة إلى الملياردير أرسطو سقراط أوناسيس.


(Getty)

أما قصر "غريتي" فبُني عام 1515 كمقر لحاكم المدينة، وتحوّل لاحقًا إلى مقرّ يقطنه سفراء الفاتيكان، ثم أصبح أحد أفخر فنادق فينيسيا. يتردّد عليه أعضاء الأُسر المالكة ومشاهير هوليوود. سابقًا، أقام فيه سومرست موم، وونستن تشرشل وأندريه مالرو وإيغور وفيرا سترافينسكي ولوتشينو فيسكونتي، وأورسون ويلز أيضًا. وصفه همنغواي بأنه "أفضل فندق في أفضل مدينة للفنادق"، أما توماس مان فكان يُفضِّل الابتعاد عن فينيسيا السياحية والإقامة في جزيرة الليدو، التي تردّد على فندقها التاريخي، "أوتيل دي بان" (1900) منذ عام 1911. هناك، صُوِّر أحد أشهر الأفلام السينمائية المقتبسة عن نصّ أدبي "الموت في فينيسيا" (1971) لفيسكونتي (عن رواية لمان).
جزيرة الليدو كانت مسرحًا لغراميات اللورد بايرون مع حبيبته الإيطالية ابنة الأعوام الـ18، وزوجة أحد نبلاء المدينة. على شاطئها، كان يسبح دائمًا. لكنه بدأ تأليف مسرحيته "مارينو فاليريو: دوق فينيسيا" وأولى مقاطع "دون خوان" في جزيرة "سان لازارو". بايرون (36 عامًا)، جاء إلى إيطاليا هاربًا من الديون والفضائح، وعاش أعوامًا عديدة في فينيسيا، قضى معظمها في جزيرة "سان لازارو"، حيث عاش مع الرهبان الأرمن، وتعلم اللغة الأرمنية، وشارك في إعداد المُعجم الإنكليزي الأرمني.
"سان لازارو" من أسرار فينيسيا الدفينة. كانت سابقًا مستعمرة للجذام. عام 1717، منحها دوق فينيسيا لراهب كاثوليكي أرمني لتأسيس طائفته الدينية، فبنى الرهبان الأرمن كنيستهم وصوامعهم، ولا يزالون يعيشون فيها حتى اليوم. تعتبر الجزيرة أكبر كنز خارج أرمينيا للمخطوطات والكتب الأرمنية. زيارة الكنيسة العتيقة ومتحفها، ورؤية مئات الكتب والمخطوطات الأرمنية والعربية والعبرية أمر مُذهل. كذلك أدوات الطباعة القديمة، حيث كان لفينيسيا دورها الرائد في دخول الطباعة وانتشارها في أوروبا. أيضًا، يتضمّن المتحف سجلات لما نهبه نابوليون بونابرت من القاهرة أثناء الحملة الفرنسية، وفيه مومياءات مصرية أصلية، ونسخ قديمة ونادرة من الأناجيل، وبعض أجزاء من القرآن.
يصعب فعلاً حصر جزر فينيسيا وروائعها، فهي جمهورية قائمة بحدّ ذاتها لعشرات القرون. بعض جزرها صغيرة جدّا، والأخرى كبيرة. بعضها يسكنه الآلاف، وأخرى يسكنها العشرات فقط. البعض منها مجرّد أديرة قديمة مهجورة أو مُستخدمة، منها ما هو فنادق صغيرة. جزرٌ أخرى عبارة عن مقبرة ضخمة رائعة من الخارج. باختصار، فينيسيا ليست فقط "القنال الكبير" وساحة سان ماركو ومُحيطها ومراكبها الصغيرة (الجندول)، ولا هي المباني الأثرية والقصور الفخمة في البلدة القديمة والمتاحف المتميزة والكنائس والكاتدرائيات الفريدة. فبعيدًا عن هذا كلّه، هناك جزر وشوارع ومنازل كثيرة تُعتبر بمثابة "تحف فنية".
إنها بالفعل دولة يحتاج زائرها إلى أشهر عديدة لاكتشافها ومعرفة تراثها، ولِمُلاحظة كل ما هو "فينيسي" خالص فيها، ولإدراك أن لها لهجة خاصة، وأن مُفرداتها صعبة، حتى على الإيطاليين أنفسهم. مثلا، "ألتانا" (Altana)، اختراع "فينيسي" بحت، وهو يعني شرفة خشبية مُربعة الشكل ومفتوحة الجوانب والأسقف، تُنصب فوق أسطح المنازل (تشبه قليلاً أماكن تربية الحمام فوق الأسطح في الدول العربية). ألتانا مُخصّصة للقاء الأهل والأصدقاء، ولتناول الطعام والشراب، ولتبادل الأحاديث والاستمتاع برؤية المدينة من أعلى.
يرى الفينيسيون أن الدولة الإيطالية ماضية منذ أعوام طويلة في طريق مُظلمة، وأنهم غير معنيين بها، وأنهم يرغبون في الانفصال عنها وتأسيس إقليم تكون فينيسيا عاصمته؛ وقد جرى استفتاء عام 2014، إلكتروني وغير مُلزم، أعرب فيه 60 بالمئة من السكان (3.8 ملايين نسمة) عن الرغبة في الانفصال. وقال الحزب الرئيسي هناك حينها إن فينيسيا تدفع للحكومة 71 مليار يورو سنويًا، بينما تحصل على مساعدات لا تتجاوز قيمتها المالية 50 مليارًا فقط. يبدو أن الحنين إلى الجمهورية الفينيسية القديمة الثرية لا يزال يُداعب عقول أهلها وقلوبهم وأحلامهم.
دلالات
المساهمون