مسلسل "سابع جار": الصدام مع وهم الفضيلة والكود الأخلاقي

18 ديسمبر 2017
من المسلسل (فيسبوك)
+ الخط -
في واحد من أشهر مشاهد السينما المصرية في فيلم "مواطن ومخبر وحرامي" (2001)، يحاول المخرج والكاتب داود عبد السيد، التقاط التصوُّر الأكثر شعبوية في مصر عن الفن، حيث يسأل شريف المرجوشي، "الحرامي" الذي ينتمي لطبقة بسيطة ومهتم بالقراءة، المواطنَ سليم سيف الدين، المثقف ذا الرصيد الاجتماعي الذي انتهى من روايته الأولى، يسأله "المرجوشي" عن "الهدف والعظة من الرواية؟". ويفسّر أنّ هدف الفن هو إعطاء "عبرة" للناس، وأن روايته في المقابل مليئة بالانحلال؛ وشخصيته الرئيسية تقيم علاقة غير شرعية من دون أي عقاب. وأن الرواية أيضاً كافرة؛ ففي مدتها الطويلة التي تمتد لـ20 عاماً، لم تقم شخصية واحدة بالصلاة أو الصوم! 


المشهد ذو الطابع الساخر يحمل، بالفعل، رؤية الكثير من المصريين لماهية الفن؛ حيث البحث الدائم عن "المعنى" و"الهدف" و"العظة"؛ الطيبون حتماً ينتصرون في النهاية، وغير الطيبين، تبعاً لمقاييس أخلاقية أو دينية، سينالون عقابهم، فالخطايا كلها مسموحة بشرطٍ واحد، هو أن يكون لها "ثمن" عقابي يُطَهّر صاحبها أو يضعه في خانة الشخص "الشرير" أو "اللاهي" الذي سيتوب حتماً قبل آخر صفحة من الرواية أو آخر دقيقة من الفيلم أو آخر حلقة من المسلسل. وفي الحالات القليلة التي يتجاوز فيها عملٌ ما ذلك "الكود" مع الجمهور، مثل أفلام عبد السيد نفسه، أو آخرين مثل يوسف شاهين أو يسري نصر الله، فإن التعامل معها يكون باعتبارها "فئوية" وتتحدث عن بشر من مكانٍ آخر، "لا يحملون التقاليد المصرية الأصيلة" كما يُقال.
هذا التصور الأخلاقي الحاد والمتراكم عبر عقود طويلة، هو تحديداً ما تصادم معه مسلسل "سابع جار"، للمخرجات آيتن أمين ونادين خان وهبة يسري. فهو، من ناحية، مسلسل عائلي، يدور في بيوتٍ مصرية تنتمي للطبقة المتوسطة، وهي الطبقة الأعرض، وربما الأكثر تأثيراً في تكوين الذوق والقوانين الأخلاقية العامة، بل إن جزءاً أساسياً من شعبية المسلسل في بداية عرض حلقاته، قبل قرابة الشهرين، كان قدرته على استحضار أحاديث وتفاصيل ومشاكل وطبيعة العلاقات في البيوت المصرية؛ كطريقة تواصل الأم مع ابنتها، أو تعامل الجيران مع حادثة وفاة تجري في العمارة، أو علاقة اثنين من المتزوجين حديثاً وشكل المشاكل بينهما وغيرها. لذلك، فمع تقدم الحلقات، وظهور صورة أخرى من "الواقعية" غير المعتادة في التعامل مع حيوات الطبقة المتوسطة على شاشة التلفزيون، هنا حدث الصدام العنيف، فلم تكن هناك مساحة للهرب أو القول إن هؤلاء "فئة أخرى" أو إنهم لا يحملون التقاليد الأصيلة، فهم أشخاص عاديون جداً يشبهون الجيران والأهالي الذين تتعامل مع أمثالهم يومياً في الشوارع والمواصلات.



نقد لمفهوم "الخطيئة"

في "سابع جار"، لا يتمُّ التعامل مع الخمر، مثلاً، أو "الحشيش" باعتبارهما خطيئة، ولا توجد إدانة أخلاقية للأشخاص الذين يشربونهما. وفي المسلسل، تقومُ الفتاة المراهقة التي تبحث عن نفسها منذ البداية بطلب من جارها أنها تريد "تجريب الحشيش"، من دون أن يكون ذلك حدثاً محورياً أو يحمل إدانة ما. بل إنه، كالمسلسل بشكل عام، محاولة لالتقاط حياة يوميّة. زيارات الإناث لأصدقائهن الذكور هي جزء "الكود الأخلاقي" المعتاد في السينما المصرية، والذي يُحتم أن تلك الزيارة حتماً ستنتهي بفاجعة علاقة جسدية أو محاولة اعتداء، لأن الزيارة كانت خاطئة من البداية. ولكن مرور الأمر بشكل عابر وبأنهم "فقط أصدقاء يتقابلون في البيت" كان صادماً وغريباً على الكثير من المشاهدين، حتى امتداد الأمر إلى تفاصيل وخطوط درامية أكبر، من قبيل عرض فتاة في منتصف الثلاثينيات الزواج على رجل، لأنها "تريد أن تصبح أماً"، وأن زواجهما سينتهي فور أن تنجب، أو قرار فتاة أخرى أن تعيش في بيت بمفردها وبعيداً عن أهلها، وغيرها من التفاصيل الكبيرة والصغيرة داخل الحلقات.


المحافظون ضد المسلسل


كل هذا كان صادماً للمشاهدين المعتادين على "كود" ثابت وممتد لعقود. ولم يشعر أي منهم بالارتياح بأن تمر تلك الأمور عادية من دون إدانة أو عقاب أو تطهر، كما جرت العادة، وانقسموا حينها إلى جانبين؛ جانب يعتقد أن تلك الأشياء لا تحدث أصلاً في الحقيقة، وأن المسلسل يأتي بأشياء "مخالفة للتقاليد المصرية" و"يدس السم في العسل" وغيرها من الاتهامات التي تعرّض لها بكثافة خلال الأسابيع الماضية، وتلك الفئة لأشخاص هم الأكبر سناً والأكثر محافظة وأخلاقية وظناً بأن الواقع هو فقط ما يعرفونه أو يعتقدون بصوابه، وأي شيء آخر هو مخالف وغير حقيقي ولا ينتمي لـ "المصريين". ثم هناك الجانب الآخر الذي يرى أن تلك التفاصيل تحدث فعلاً في الواقع ولكن "ليس كل ما يعرف يُقال أو يعرض على الشاشة"، حتى لا يعتبر تحريضاً على الأفعال الخاطئة من وجهة نظرهم، وهؤلاء يملكون نظرة شريف المرجوشي للفن باعتباره ذا وجه واحد يهدف إلى وعظ الناس، وليس ذا وجوه متعددة أحدها قد يكون محاولة التقاط تفاصيل ويوميات الواقع من دون حكم مسبق، كما يحدث في "سابع جار". وفي الحالتين كانت الصدمة هي العنوان الأكبر، ورغم كل هذا كان الجدل الدائر مفيداً، سواء للمسلسل أو لطريقة التعامل مع الدراما بشكل عام.



دلالات
المساهمون