"أكواريوس" للبرازيلي كليبير مندونزا فيلو: مواجهة بسينما جميلة

31 أكتوبر 2016
صونيا براغا في لقطة من "أكواريوس" (العربي الجديد)
+ الخط -
لا يبتعد "أكواريوس" (2016)، الروائي الطويل الجديد للبرازيلي كليبير مندونزا فيلو، عن السياسة والاقتصاد والاجتماع والعمران والثقافة، كما عن العلاقات الإنسانية والعائلية، ومعنى الارتباط الذاتي بالذاكرة والراهن. فهو، في واحدٍ من أوصافٍ عديدة تُمنح له، "فيلمٌ عن واقع العيش في المجتمع"، وهذا كافٍ للقول إنه مفتوحٌ على أسئلة الحياة اليومية، بضغوطها ومشاغلها ومآزقها وحيويتها.
حالات عديدة يُعاينها الفيلم، في ظلّ ارتباك اللحظة داخل البرزايل، كما في أنحاء مختلفة في العالم، على مستوى الصراع الحاد، وإنْ يكن غير واضح المعالم وغير مُباشَر، بين حداثة وتراث، بإيجابياتهما وسلبياتهما، من خلال قصّة بسيطة وعادية، تُختصر بنزاع بين كلارا (صونيا براغا)، الناقدة الموسيقية السابقة، ودييغو (أومبرتو كارّاوو)، حفيد مالك مبنى "أكواريوس"، القائم في أحد شوارع "ريسيف" (عاصمة ولاية "برنمبوك" البرزايلية)، التي يولد فيها المخرج عام 1968.
نزاع تقليدي بين سيّدة (تخضع لعملية استئصال أحد ثدييها، المُصاب بالسرطان) والمهندس المعماري، يبدأ من رغبة الشاب في إخلاء المبنى برمّته لتحويله إلى مكانٍ يتلاءم و"العصر الحديث"، في مواجهة تمسّك العجوز بذاكرتها وذاكرة مدينتها، وسط ما يُمكن تسميته بـ "انقلاب الأقدار". نزاع بين شخصين، يُمثِّل كل واحد منهما حالة ثقافية متكاملة، تنشغل بالعمران أولاً، لكنها تنفتح على شؤون الحياة والعلاقات والمعاني والتفاصيل، الممتدة من العمران نفسه إلى كلّ شيء آخر.
السياسيّ حاضرٌ أيضاً، وإنْ في مجال آخر، إذْ يُعرض "أكواريوس"، للمرة الأولى دولياً، في المسابقة الرسمية للدورة الـ 69 (11 ـ 22 مايو/ أيار 2016) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ، بعد نحو شهر واحد على إقالة الرئيسة البرازيلية السابقة ديلما روسّيف من قِبل مجلس النواب، الرافض أي تجديد لها. إقالة تُشبه عملية إخلاء مبنى "أكواريوس"، وتمسّك كلارا بحقّها في البقاء في بيتها/ وطنها لا يختلف عن مساعي الرئيسة روسّيف إلى استعادة حقّها في البقاء في منصبها، وفي الترشّح مجدّداً لرئاسة البلد.




غير أن كليبير مندونزا فيلو ينفي كلّ صلة ممكنة بين مشروعه السينمائيّ هذا وواقع الحال السياسي في بلده. يؤكّد، في تصريحات صحافية مختلفة، أن تصوير الفيلم منتهٍ في 22 سبتمبر/ أيلول 2015، قبل وقتٍ غير قليل على بداية الأزمة السياسية. في المقابل، لا ينفي الحسّ السياسي الذي تتضمنه الحبكة: "ليست المرّة الأولى التي يلتقط فيها فيلمٌ أو مسرحيةٌ أو كتابٌ جوهر ما يحدث في المجتمع"، مشيراً إلى أنه متفاجئٌ وسعيدٌ بقدرة فيلمه على فعل هذا، كأنه "هوائيٌّ لاقطٌ" (حوار منشور في الصحيفة اليومية البلجيكية "لو سوار"، 24 ـ 25 سبتمبر/ أيلول 2016).
لكن إسقاطاً سياسياً مباشراً كهذا على المضمون الدرامي للفيلم لن يحول، بأي شكل من الأشكال، دون التنبّه إلى جماليات أخرى، تمتد من الشكل السينمائيّ المعتمد (وإنْ تشوبه هنات، يتمثّل بعضها في لقطات طويلة لن تكون كلّها لصالح السرد البصري ـ الدرامي ـ الحكائيّ) إلى الأداء التمثيلي لصونيا براغا تحديداً، التي تحمل في شخصيتها السينمائية هذه قوة بليغة في مواجهتها سرطان الثدي وسرطان المجتمع في آنٍ واحد، داخل المبنى الذي تُقيم به، واستطراداً في البلد كلّه.
تعيش كلارا وحيدة في منزلها. لديها ثلاثة أولاد، وحفيد. هناك ارتباك بينها وبينهم، يختفي أحياناً، ويظهر أحياناً أخرى. لكن نواة العلاقة أكبر من أن يُصدّعها ارتباكٌ كهذا. لديها ذكريات امرأة تذهب، في شبابها، إلى أقصى الحالات، وتعود أقوى من ذي قبل. تتغلّب على مرضها، وتُكمل عيشها كما يحلو لها. تواجه "إقلاق راحتها" في المبنى الخالي من سكانه ببسالة محارِبة مجرِّبة. تشعر برغبة جنسية، فلا تقمعها. تنظر إلى جيل شبابيّ حولها، بانفعالاتهم وطيشهم واختباراتهم الآنية، فتتراىء لها صُوَر عديدة من ماضيها. تتعرّض لضغوط شتّى، لكنها تُصرّ على قول "لا" في حالات تستدعي قول "نعم". فالمسألة، بالنسبة إليها، تُختزل برفضها الانصياع لمشيئةٍ لا تنسجم ورؤيتها الحياة. تشرب نبيذاً أحمر، وتستمع إلى الموسيقى، وتمارس الرياضة، وتُشارك في مجموعات تريد بلوغ حالة عميقة من الضحك للتخفيف من حدّة اليومي. لا تنسى ذكرى ميلاد مساعدتها في المنزل، وتهتم بحفيدها عندما تحتاج والدته/ ابنتها إلى مساعدتها.
بين رصد تفاصيل الحياة اليومية في مدينة ساحلية في البرازيل، ومواكبة مسار التحوّل الحاصل ببطء، وكشف معنى المواجهة الدائمة لحماية حقّ فرديّ تريد الجماعة السلطوية منعه عن صاحبه، تروي كلارا ـ بأداء رائع لصونيا براغا ـ شيئاً من أحوال عالم يسقط، يوماً تلو آخر، في جحيم الأرض. وذلك في فيلمٍ يوازن بين هذا كلّه، وجمالية لقطات تكشف باطن ذات وروح وانفعال بهدوء تام، وتتابع غلياناً، يعانيه كثيرون، عبر لقطاتٍ تطفو، بصمتٍ، على واجهة المشهد.

دلالات
المساهمون