بدعوة من وزارة الخارجية الصينية، ومدير المعهد الصيني للدراسات الدولية التابع للوزارة، سافرت إلى الصين من أجل المشاركة في مؤتمر الأمن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومستقبل العلاقات مع الصين. وقد التقى كبار أعضاء الوفود العربية المشاركة بوزير الخارجية الصيني، وانغ يي، ساعة.
وقد تبين من اللقاء أن الصين قلقة من غياب الأمن في المنطقة العربية تحديداً، وتخشى على مصالحها التجارية والاقتصادية والاستراتيجية إن بقيت ترقب الأحداث من دون أن يكون لها دور فاعل فيها. وفي معرض حديثه أشار الوزير إلى فكر الرئيس الصيني، شي جين بينغ، بضرورة وضع إطار للأمن في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وقد انقسم رد الفعل العربي على هذا المقترح إلى قسمين:
يرى الأول أن الصين يجب أن تلعب دوراً أكثر فاعلية في المنطقة، وأن تمسّكها بالبعد الاقتصادي والتجاري سيجعلها الحاضر الغائب، وأن عليها أن تكون أكثر حركةً، وأن تكفّ عن الادعاء أنها دولة نامية من حيث معدل دخل الفرد، في الوقت الذي يشكل مجموع ناتجها المحلي الإجمالي حوالي 16 تريليون دولار، فتتوقف عن دور المراقب المحايد، لأن للدول الأربع الأخرى الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وجودا عسكريا وسياسيا أكبر في المنطقة العربية.
وطالب الرأي العربي الآخر بأن يأتي إطار الأمن في المنطقة بعدما تحل مشكِلَتا إيران وإسرائيل، وأن تتوقف هاتان الدولتان عن الاعتداء على الدول العربية والتدخل في شؤونها الداخلية. وبدون أن ينجز هذا الإيقاف، فإن الإطار الأمني الذي تسعى الصين إلى وضعه لن يكون ذا فائدة.
والواقع أن الرأي الثاني على وجاهته الظاهرية لا يعطي للصين دوراً إذا توقف أداء هذا الدور على إسكات إيران، وإيقاف الاعتداءات الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية. والصين لا تقدر على أن تفعل ذلك، إلا إذا توصلت إلى تفاهماتٍ مع الاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، وروسيا على أقل تقدير، وشكّل هؤلاء الأربعة فريقاً له الندّية حيال النفوذ الأميركي.
ولكن يبدو أن بعض دول الخليج ترى أن همها الإيراني هو الذي يجب أن يُسوّى أولاً. وهو أمرٌ رأى بعض المندوبين العرب الآخرين فيه إحراجاً للصين التي تتمتع بعلاقات جيدة مع إيران، ولا تريد أن تكون وسيلة لمحاربتها.
وألقى نائب وزير الخارجية الصيني كلمةً شاملةً في بداية المؤتمر، تناول فيها تحدّيات الأمن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية عن طريق حل الدولتين على أساس قرار مجلس الأمن 242 للعام 1967، وإيقاف الحروب في اليمن وسورية والعراق وليبيا. والأمر الثالث هو محاربة الإرهاب بكل أشكاله.
وقال إن الصين مستعدّة لأن تساهم في تنمية المنطقة تنمية مستدامة، وذلك لأن التنمية المتقلبة لن تحل المشكلات الرئيسية التي تعاني منها الأوطان العربية.
وقدّمت الصين استثمارات كثيرة وزادت استيرادها من الدول العربية، وأنها تنظر باهتمام كبير نحو إنجاز مشروع "حزام واحد، طريق واحد"، وما يشتمله خلال السنوات العشر المقبلة من مشروعات بنى تحتية ضخمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وفي لقاء ضم خمسة من أعضاء الوفود العربية مع مدير معهد الدراسات الدولية وباحثين فيه، كان الحديث أكثر وضوحاً وصراحة، فقد طالب الجانب العربي بأن تأخذ الصين دوراً أكثر فاعلية، وتكون، إلى حد ما، موازنة للدور الأميركي وتحيزاته ضد العرب والمسلمين.
وقد أكد الجانب الصيني أن الصين تتمسّك بمواقف ثابتة، فقيل لهم نحن نعلم مواقفكم، ولكن علاقاتكم مع إسرائيل تتزايد في مجالات النقل وتكنولوجيا المعلومات والأسلحة، وتريدون الاستفادة من اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة. ولم يعلّق الجانب الصيني على ذلك بالنفي، ولكنه اكتفى بإيماءاتٍ خفيفةٍ إلى تعاون بعض الدول العربية مع إسرائيل والتطبيع معها.
أما فيما يتعلق بالمسلمين الإيغور، فقد قالوا إن الدعاية الغربية تستغل هذا الأمر ضدهم، كما تفعل في هونغ كونغ. وقال إنهم يسعون إلى تمزيق الصين وتسميم علاقاتها مع الآخرين، إلا أن الصين أقوى من التسليم للولايات المتحدة في حربها التجارية وحرب التكنولوجيا والعملات.
ولم يخفِ الجانب الصيني تأثّره بالمقاطعة التجارية الأميركية، مؤكداً أن الوفر في الميزان التجاري قد تراجع بنسبة 10%، وأن النمو في الربع الأول من عام 2019 قد هبط إلى 6.5%، ثم إلى 6.2% في الربع الثاني، وإلى 6.0% في الربع الثالث. إلا أن هنالك مؤشّرات أن الشعب الصيني يستجيب مع الحكومة في التركيز على السياحة الداخلية، وعلى شراء السلع الصينية، وأنهم صاروا يستعيضون عن بيع الشركات الأميركية بالبيع عن طريق التجارة الإلكترونية خصوصا من خلال شركة "علي بابا"، والتي ارتفعت مبيعاتها من السلع الصينية عام 2019 بنسبة 20% تقريباً.
ومع أن النفط والغاز يهمّان الصين كثيراً، وتريد الاستعاضة بهما عن الاستخدام المكثف والملوّث للفحم الحجري، فقد وسّعت الصين بدائلها في هذا المجال كثيراً. ولعل أهم مشروع هو الأنبوب الروسي الصيني للغاز، والذي وافق البلدان على إنجازه. وهم الآن يعقدون آمالاً كبيرة على تطوير علاقاتهم مع روسيا.
وتعمل الصين كذلك على إنشاء منطقة حرّة في بحر الصين، تشمل كلاً من اليابان وكوريا الجنوبية، وتأمل أن تتمكّن من توسيع تعاونها إلى منطقة الآسيان، والعمل جار بكل همّةٍ في هذا الاتجاه.
الصين دولة عميقة، وتتمتع بتفكير استراتيجي، وهم من الواضح أنهم يسعون، بكل قوة، لكي يفلتوا من كل مصادر التأثير عليهم من الولايات المتحدة وأوروبا.
وخلاصة هذا المؤتمر الهام، والأول من نوعه، أن الصين قد وضعت مشروعاً لإعادة الأمن للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأنها تؤمن أن تفتيت المنطقة ليس في صالحها الاستراتيجي، بل هي محاولة من أجل منع تحالف عربي أو إسلامي مع الصين، كما توقع كتاب صامويل هنتنغتون "صراع الحضارات"، أو "صدام الحضارات". وقد باتوا يرون أن زيادة التفاعل مع المنطقة الاستراتيجية العربية وإيران وتركيا وإسرائيل هو الأكثر نجاعةً لها، وللحفاظ على دورهم الكبير القادم.