التقشف الأوروبي اللاتيني... حكومات تخفض الإنفاق العام وتؤجج الشارع

03 يوليو 2017
خلال تظاهرة نظمت باليونان ضد التقشف(لويزا غولياماكي/ فرانس برس)
+ الخط -
يواجه المواطنون في غالبية الدول إجراءات "التقشف" التي تفرضها الحكومات، وتتمثل بخفض الإنفاق على المجالات الحيوية التي ترتبط بمصالح الناس بشكل مباشر، خصوصاً التعليم والصحة والإسكان والتوظيف وخفض الاعتمادات المخصصة للأجور في القطاعات العامة.
وضرب التقشف هذا العام عدداً كبيراً من الدول التي شهدت تحركات صاخبة في شوارعها، خصوصاً في أوروبا وأميركا اللاتينية، وإن كان الإنفاق في أميركا قد تحرر جزئياً من تبعات الأزمة المالية العالمية التي انطلقت في العام 2008، إلا أن انعكاسات الأزمة لا تزال تضرب دولاً أخرى، تلجأ في غالبية العلاجات إلى خفض الإنفاق بالتزامن مع ارتفاع حجم الاستدانة...

أوروبا تحت ضغط الشارع

فقد خسر حزب العمال البريطاني المعارض نهاية الشهر الماضي، اقتراعاً في البرلمان لمحاولة إرغام رئيسة الوزراء المحافظة تيريزا ماي على كبح إجراءات التقشف وزيادة أجور العاملين بالقطاع العام.
وتحت قيادة زعيمه اليساري جيريمي كوربن، يعارض حزب العمال اجراء تخفيضات في الإنفاق العام يعتبرها البعض مسؤولة عن حريق شب في وقت سابق الشهر الماضي في بناية سكنية في لندن ِوأودى بحياة ما لا يقل عن 80 شخصاً.

وقال المتحدث باسم كوربن إن حزب العمال سيستغل كل فرصة تتاح له لمحاولة عرقلة تنفيذ سياسات حزب المحافظين، خصوصاً ما يتعلق "بالتقشف وتخفيضات الخدمات العامة الحيوية والانخفاضات المستمرة بالأسعار الحقيقية في أجور القطاع العام".
ونتيجة للاستعدادات الحكومية لمباشرة إجراءات التقشف، جابت تظاهرة كبيرة شوارع لندن، السبت الماضي، وطالب المتظاهرون بوقف التقشف، حاملين شعار: "ولا يوم إضافياً"، في دعوة إلى رحيل تيريزا ماي، والمحافظين عن السلطة.

إلى بلجيكا، حيث نظمت سلسلة من التظاهرات آخرها كان في مايو/ أيار الماضي، ضد تحديد ساعات العمل الأسبوعية بـ45 ساعة وخفض الأجور وتقليص النفقات الحكومية المخصصة لقطاع الصحة، عبر التنديد بسياسة التقشّف التي تطبقها الحكومة الفيدرالية بالبلاد.
وطالب المتظاهرون الحكومة الفيدرالية بتطبيق سياسات اقتصادية بديلة، وإيجاد حلول للاحتباس الحراري، وتوسيع نطاق الديمقراطية والخدمات العامة في البلاد.

وفي أوروبا أيضاً، لم تهدأ تحركات الشوارع اليونانية ضد الحكومة وسياساتها الاقتصادية. وينفذ آلاف اليونانيين منذ مطلع العام الحالي، مسيرات وتظاهرات وإضرابات ضد استمرار تدابير التقشف التي يطالب بها المقرضون الدوليون مقابل صرف أموال لإنقاذ اليونان من الإفلاس.
وتشمل إجراءات التقشف اليونانية خفض معاشات التقاعد للمرة الثالثة عشرة منذ 2010، وخفض بدلات الدخل المعفاة من الضرائب. ويقترب معدل البطالة في البلاد من 25%، وترتفع النسبة إلى 48% بين الشبان.

أما إيطاليا، فتعيش في أزمة متواصلة منذ سنوات، مصحوبة بموجة تقشف شديدة، نتج عنها ارتفاع معدل الفقر، وفق بيانات مكتب الإحصاءات الوطني الإيطالي، إلى أعلى مستوى في عشر سنوات، إذ طاول "الفقر المدقع" 4.6 ملايين شخص، أما من يعيشون في "فقر نسبي"، فارتفعت أعدادهم أيضاً إلى 8.3 ملايين شخص، أي 13.7% من السكان. واقع دفع بآلاف الإيطاليين نحو الشارع للمطالبة بوقف خفض النفقات العامة.
وأيضاً، أعلن وزير المالية الفرنسي برونو لومير، أن بلاده ستجري تخفيضات جديدة في مختلف أوجه الإنفاق العام للوفاء بمستوى العجز المستهدف للاتحاد الأوروبي والبالغ 3% في 2017.
وأضاف أن التخفيضات في الإنفاق العام ستشمل إنفاق الدولة والحكومات المحلية والخدمات الاجتماعية.

رفض في أميركا اللاتينية

واستمرت خلال الأسبوع الماضي التظاهرات في البرازيل ضد إجراءات التقشف التي اتخذتها الحكومة.
ويحتج المتظاهرون على إجراءين أقرهما الرئيس ميشال تامر، يتعلق أحدهما بمعاشات التقاعد والآخر بتحرير سوق العمل، ويفترض أن يطرحا للتصويت قريباً في البرلمان. وتعيش هذه البلاد أسوأ انكماش اقتصادي في تاريخها، في ظل ضلوع عدد من وزرائها في فضيحة فساد كبرى، طاولت الرئيس نفسه.
ولم تعف التحركات الشارع الأرجنتيني، الذي جمع آلاف الأشخاص ضد سياسة التقشف لحكومة الرئيس ماوريسيو ماكري، التي أدت إلى انخفاض القوة الشرائية بشكل كبير. وقبل هذه التظاهرات أضرب المدرسون في البلاد، ما أجبر السلطات على تأخير بدء العام الدراسي. وحصل الشيء نفسه في قطاع الاستشفاء.

وكذا، أعلن لاعبو كرة القدم احتجاجهم على رواتبهم، ما أدى إلى إرجاء استئناف مباريات البطولة المحلية. وارتفعت عمليات الصرف من العمل خلال الفترة الأخيرة بعد أن دخلت الدولة الاقتصادية الثالثة في أميركا اللاتينية في فترة انكماش عام 2015. في حين أن نسبة التضخم وصلت إلى نحو 40% عام 2016. وتشير أرقام رسمية إلى أن ثلث الأرجنتينيين يعيشون تحت خط الفقر.

آراء متضاربة

ويقول الأكاديمي والباحث الاقتصادي البروفسور روبرت سكيدلسكي، في مقالة له نشرت الشهر الماضي في موقع "بروجكت سانديكايت"، إن خفض الإنفاق العام لضبط الموازنة قائم على نظرية خاطئة وفشل في الممارسة العملية.
وكان المؤشر الأكثر وضوحا عجز وزير الخزانة البريطاني جورج أوزبورن، في الفترة من 2010 إلى 2016، عن تحقيق أي من أهداف ميزانيته. إذ كان المفترض أن يختفي العجز تدريجياً بحلول عام 2015، ثم بحلول عام 2017، ثم في الفترة من 2020 إلى 2021. والآن لن تلتزم أي حكومة بأي تاريخ على الإطلاق.

ويشرح سكيدلسكي أن الأهداف استندت إلى فكرة مفادها أن أي برنامج "جدير بالثقة" لخفض العجز لا بد أن يعمل على توليد القدر الكافي من ثقة عالَم الأعمال للتغلب على التأثيرات الناجمة عن التخفيضات ذاتها على الأنشطة.
ويرى بعض المراقبين أن الأهداف لم تكن قَط جديرة بالثقة بالقدر الكافي. والحقيقة أنها ما كانت لتستحق القدر الكافي من الثقة أبدا، فمن غير الممكن أن ينخفض العجز ما لم يسجل الاقتصاد نمواً ملموساً، كما تعمل تخفيضات الميزانية، الحقيقية والمتوقعة، على عرقلة النمو.

وتذهب تحليلات كثيرة الآن إلى أن التقشف تسبب في تأخير التعافي لمدة ثلاث سنوات تقريبا، ما أدى إلى إضعاف الأرباح الحقيقية وإلحاق الضرر بشكل ملموس بالخدمات العامة، مثل الحكم المحلي، والرعاية الصحية، والتعليم.
إلا أن رأي أستاذ العلاقات الدولية ووزير مالية تشيلي أندريس فيلاسكو، مختلف، إذ يعتبر الأخير أنه إذا كان ضبط الأوضاع المالية في الأرجنتين والبرازيل كفيلاً بخلق فرص النمو، فينبغي لهما أن يغتنما هذه الفرصة والسير بإجراءات التقشف.

ويشرح أن دولة مثقلة بالديون مثل البرازيل، ربما يخلف ضبط الأوضاع المالية العامة فيها أثرا غير تقليدي على سعر الصرف: فبقدر ما يخفف تقليص العجز بنسبة صغيرة من المخاوف من أن تحاول الحكومة التخلص من عبء الديون بالاستعانة بالتضخم، ترتفع قيمة العملة.
وكذا الحال في الأرجنتين، حيث من شأن زيادة اليقين بأن سعر الصرف الحقيقي سيكون تنافسياً، أن تساعد في فتح باب الاستثمار في المشاريع الزراعية، والطاقة، والصناعات المنافسة في الأسواق الدولية.


(العربي الجديد)


المساهمون