عن نتائج القرارات الاقتصادية المؤلمة في تركيا

24 يوليو 2023
الليرة التركية سجلت انخفاضاً بنسبة تزيد عن 43% منذ بداية العام (Getty)
+ الخط -

تزامناً مع تغيير السياسة النقدية في البلاد ورفع معدلات الفائدة إلى 17.5% نهاية الأسبوع الماضي الماضي، أقرّت الحكومة التركية رفع الرسوم الثابتة بنسبة 50%، ورسوم بعض المواد كالأجهزة الذكية والسلع بنسب متفاوتة.

وشملت الرسوم الثابتة؛ تجديد الإقامة، وجواز السفر والشهادة، وتأشيرة السفر، وأذون وتصاريح العمل، وتم رفع رسوم تصريح إدخال هاتف من خارج تركيا بمبلغ 20 ألف ليرة في الوقت الذي كان الرسم قبل القرار 6.091 ألف ليرة، ورفع ضريبة القيمة المضافة على المنتجات الأساسية إلى 18% من 8% مثل الأغذية والمشروبات والمنظفّات والمناديل.

فيما ارتفعت الضريبة على السلع الاعتيادية والمنتجات الإلكترونية والسيارات والسجائر والكحول بنسبة 20% من 18%، كما ارتفعت الضريبة على استهلاك الوقود من 2.52 إلى 7.52 ليرات، ليزيد سعر البنزين من 28 إلى 34 ليرة والديزل من 26 إلى 32 ليرة.

استمرت العملة التركية في طرق مستويات جديدة لتنخفض إلى أكثر من 26.50 ليرة أمام الدولار وتسجل انخفاضاً بنسبة تزيد عن 43% منذ بداية العام

واستمرت العملة في طرق مستويات جديدة لتنخفض إلى أكثر من 26.50 ليرة أمام الدولار وتسجل انخفاضاً بنسبة تزيد عن 43% منذ بداية العام، على الرغم من توجهات الحكومة والسياسات النقدية والمالية المتخذة. ليعود التساؤل المحوري حول جدوى هذه القرارات والسياسات والتي يُعتقد أنها إضافة جديدة لارتفاع الأسعار في السوق وانخفاض قادم على الليرة.

فلسفة الوزير وفريقه الاقتصادي

تتلخص فلسفلة وزير المالية والخزانة محمد شيمشك وفريقه الاقتصادي في التساؤل حول كيفية تحقيق الاستقرار في الأسواق واستعادة ثقة المستثمرين، وهو بهذا التساؤل ينقل محل انشغاله وتفكيره اليومي من سعر الصرف وسياسات الدفاع عن الليرة إلى نظرة أكثر شمولاً، لا يهتم فيها إذا استيقظ صباحاً ورأى سعر الصرف 27 أو 30 أو حتى 50 ليرة مقابل الدولار، لن يصرف البنك المركزي احتياطياته من النقد الأجنبي للدفاع عن السعر، ولن يزيد الرقابة والتشديد على الأسواق، أو يقرّ سياسات نقدية أكثر صرامة على البنوك التجارية، كما لن يكون استقطاب العملات الأجنبية ضمن دوائر أولوياته.

فقد ألقى البنك مسؤولية تحديد سعر الصرف على قوى السوق، فإذا ارتأت ضرورة بيع كميات كبيرة من الليرة مقابل الدولار، فهذا شأنها، منطلقاً من قناعة أن العرض والطلب لا بدّ أن يلتقيا عند نقطة التوازن في نهاية المطاف لتشكل القيمة العادلة بدون أي تدخل من المشرّع الاقتصادي، سوى تهيئة الظروف الملائمة لاستقرار الأسواق ومؤشرات الاقتصاد الكلي.

ويسأل سائل: ما دواعي زيادة الطلب على العملات الأجنبية في السوق ضد العملة الوطنية!، وما الذي يجعل المواطن يقلل من قيمة عملته الوطنية أمام أي عملة أجنبية ويسعّر دخله بالدولار! وما الذي يجعل المُنتِج يزيد من سعر السلعة بشكل متكرر! ويزيد التجار من أسعار السلع والخدمات!

ربما أكون مُجحفاً لو قلت إن الجواب على هذه الأسئلة هو بكلمة واحدة؛ الخوف، حيث يتركز الدور المنوط بالفريق الاقتصادي في أي بلد بتأمين مخاوف المواطنين والمستثمرين والتجار والمنتجين والشركات من الغد والمستقبل القريب والبعيد، لن يعيش أحد في أي بلد يكتنفه الغموض ولا يؤمّن على مستقبله، ولن يعمل العمّال في أي مكان إذا كانوا خائفين من مصير المعمل والشركة، ولن ينتج المنتجون في بلد غير مستقر ويستثمر المستثمرون أموالهم في اقتصاد غامض لا يؤمّن القدرة على التنبؤ بالمستقبل.

إذن الموضوع أكبر من تدخلات نقدية في الأسواق، فمن هنا جاءت استراتيجية محمد شيمشك في العودة إلى "أساس منطقي" في السياسات الاقتصادية لضمان القدرة على التنبؤ.

ربما أكون مُجحفاً لو قلت إن الجواب على هذه الأسئلة هو بكلمة واحدة؛ الخوف، حيث يتركز الدور المنوط بالفريق الاقتصادي في أي بلد بتأمين مخاوف الجميع

وعليه سيُعيد النظر بطريقة تعاطيه مع عناصر الاقتصاد الكلي ابتداءً من النموذج المتبع في نمو الناتج المحلي الإجمالي، وعلاج ارتفاع معدلات التضخم والبطالة والإنفاق الحكومي، وهل سيكتفي بالأموال الساخنة، أم سيعتمد على استثمارات حقيقية وطويلة الأمد، وفكرة التبادل التجاري مع الدول، والسياسة النقدية والمالية، سينظر في طريقة تفاعل هذه العناصر مع بعضها البعض لإعادة التوازن للاقتصاد والانسجام في مؤشرات المالية العامة وتهدئة المخاوف من خلال فرض الانضباط المالي.

العلاج مؤلم للاقتصاد

حتى الآن أظهرت تحركات الوزير شيمشك عدة نقاط مهمة يمكن أن تجيب على عدد من تساؤلات الأسواق، أشار إليها في إحدى تغريداته، حيث ذكر أن البرنامج الذي يعمل عليه يقوم على 3 مكونات: استعادة الانضباط المالي عبر تخفيض عجز الميزانية، والتشديد النقدي لخفض التضخم، والإصلاحات الهيكلية. حيث أوقف البنك المركزي سياسة التيسير النقدي وبدأ سياسة متشددة حيال النقود، من خلال رفع معدلات الفائدة إلى 15% وإيقاف التدخلات النقدية في الأسواق، وأشار الوزير في 11 تموز/يوليو الحالي إلى تحسّن صافي الاحتياطي النقد الأجنبي بمقدار 14.2 مليار دولار ليرتفع إلى 108.6 مليارات دولار في 30 حزيران/يونيو 2023، بعد انخفاضه إلى السالب مطلع العام الحالي.

كما أعلن البنك المركزي التركي، ارتفاع الاحتياطي، بما فيه رصيد الذهب، بمقدار 2.6 مليارين دولار، في الأسبوع المنتهي بتاريخ 14 يوليو/ تموز، مقارنة بسابقه، ليبلغ 113.6 مليار دولار.

ويتطلع البنك المركزي إلى خفض معدلات التضخم إلى مرتبة الآحاد على المدى المتوسط، وهي إشارة إلى أن اتباع سياسات تدريجية في العلاج، والمعلوم أن رفع معدلات الفائدة يؤدي إلى خفض الطلب على السلع والخدمات، ومن المتوقع أن يستمر البنك في رفع الفائدة خلال الاجتماعات القادمة حتى يجد مؤشرات ملموسة على تجاوب الاقتصاد معه. وألحق هذه الخطوة برفع الرسوم والضرائب على السلع والخدمات للتأثير على حركة الطلب أيضاً.

تمس هذه القرارات حياة المواطنين بشكل مباشر، إذ سترتفع تكلفة اقتراض النقود ويُحجم الجميع عن أخذ قروض للاستهلاك، بالمثل ستحجم الشركات عن أخذ قروض لتوسيع أعمالها أو القيام بمشاريع جديدة، وستتكدس السلع في المصانع والمحال التجارية جراء انخفاض المبيعات.

وإذا أرفقت الحكومة هذه القرارات بخفض الإنفاق العام وتجميد المشاريع الكبيرة وتقليل فاتورة الواردات، ستبدأ رحلة دخول الاقتصاد في الركود ليتحقق لها عدة أهداف: ضبط عناصر المالية العامة وأبرزها العجز التجاري والدين والتضخم، ليبدأ بعدها بالتفكير للعودة إلى الانتعاش عبر التيسير النقدي.

الركود من شأنه أن يزيد من معدلات البطالة، وعلى هذا الأساس جاءت تحركات الحكومة في هذا السياق نحو تفعيل دور الاستثمار والتجارة

إلا أن الركود الاقتصادي من شأنه أن يزيد من معدلات البطالة، وعلى هذا الأساس جاءت تحركات الحكومة في هذا السياق نحو تفعيل دور الاستثمار والتجارة الخارجية لتقليل آثار الركود والمحافظة على معدلات تشغيل عالية في الاقتصاد، حيث قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بجولة خليجية إلى السعودية وقطر والإمارات، بعدما مهد محمد شيمشك ونائب الرئيس جودت يلماظ للزيارة، وتسعى الحكومة إلى استقطاب استثمارات مباشرة وتوقيع عقود واتفاقات بعشرات مليارات الدولارات في مجالات الصناعة الدفاعية والطاقة والسياحة والزراعة والمرافئ والعقارات، وتطمح أنقرة لاستثمارات طويلة الأجل تقلل من عجز الحساب الجاري وتخلق فرص عمل في البلاد وتقلّص من آثار أي ركود محتمل في الاقتصاد.

وتذهب الآمال التركية إلى زيادة حجم التبادل التجاري بين تركيا والسعودية إلى 10 مليارات دولار خلال فترة قصيرة، ومن ثم إلى 30 مليار دولار على ضوء خطة السعودية 2030، وإلى 25 مليار دولار مع الإمارات في غضون 5 سنوات، و5 مليارات دولار مع قطر.

في هذا الإطار تُفهم توجهات الحكومة الاقتصادية وقراراتها في إزالة مخاوف الأسواق واستعادة ثقة المستثمرين، وهي وإن كانت قرارات مؤلمة تضر بالمواطن والشركات، إلا أنها الدواء الكفيل بعلاج المرض وأساس المشكلة، ويحتاج تعافي الاقتصاد إلى فترة تُقدر بين عامين و3 أعوام للعودة إلى حالة التوازن وتلمّس آثار السياسات المُتخذة.

يبقى الإشارة إلى أن هذه الطريقة في العلاج مجرّبة في العديد من الدول مع اختلاف ظروف وخصائص كل بلد، فعلى الرغم من الألم الذي تسببه للشركات والأفراد إلا أنها الوسيلة الوحيدة لفرض الاستقرار واستعادة زمام السيطرة على الأسعار، وتبقى شدة الألم مرتبطة بالآلية التي تطبق بها السياسات وتأخر الحكومة في اكتشاف المرض وتطبيق العلاج، فمن يعالج بعد 6 أشهر من ظهور الأعراض ليس كمن يبدأ العلاج بعد عدة سنوات.

المساهمون