عن مخاطر تبييض الأموال في لبنان

27 مايو 2024
مكتب صرافة في بيروت، 20 يناير 2023 (جوزيف عيد/ فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- لبنان يواجه مراجعة حاسمة من قبل مجموعة العمل المالي (FATF) وسط أزمة مالية، مع مخاوف من إدراجه في اللائحة الرمادية مما قد يزيد القيود المالية الدولية ويعمق العزلة المالية.
- الاقتصاد اللبناني، المعتمد على الدولرة، يواجه خطر العزلة المالية بسبب أزمة مستمرة لأكثر من أربع سنوات، مما يجعل المصارف في وضع هش ويزيد من حساسية الاقتصاد تجاه العوامل الخارجية.
- تفشي الاقتصاد غير الرسمي واقتصاد النقد الورقي يخلق بيئة لتبييض الأموال، مما يستدعي تقليص هذا الاقتصاد غير الرسمي وتفعيل أطر الرقابة، خاصة بعد تعديلات قانون سرية المصارف في 2022 لتعزيز الشفافية المالية.

في أواخر الشهر الحالي، من المفترض أن يكون لبنان على موعد مع مراجعة جديدة من جانب مجموعة العمل المالي، المتخصّصة في وضع معايير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب "الفاتف"، وتقييم امتثال الدول لها. ومنذ بدء الأزمة الماليّة اللبنانيّة، اعتاد اللبنانيون ترقّب مراجعات هذه المجموعات بالتحديد، خشية خفض تصنيف لبنان وإدراجه على اللائحة الرماديّة للمجموعة.

ثمّة ما يكفي من أسباب تدفع اللبنانيين إلى الخوف من إدراج بلدهم ونظامه المالي على اللائحة الرماديّة وفق تصنيف المجموعة. فحدوث هذا السيناريو سيدفع المصارف المراسلة الأجنبيّة إلى التشدّد في علاقتها بالمصارف اللبنانيّة، وسيفرض على المؤسسات الأجنبيّة التزام ضوابط وقيود أكثر صرامة عند التعامل مع لبنان. وبذلك، ستكون النتيجة زيادة كلفة العمليّات الماليّة مع الخارج، وارتفاع مخاطر العزلة الماليّة.

وهذا النوع من المخاطر يكتسب حساسيّة خاصّة في الحالة اللبنانيّة بالذات. إذ يتسم الاقتصاد اللبناني بمعدلات مرتفعة من "الدولرة"، في جميع أنواع العمليّات الماليّة، وهو ما يجعل السوق المحليّة معتمدة إلى حد بعيد على توافر العملة الصعبة وتدفّقها من الخارج. وبعد حصول الأزمة، ومن ثم استمرارها لأكثر من أربع سنوات متواصلة، أصبحت المصارف اللبنانيّة أساسًا في وضع هشّ للغاية، على مستوى علاقتها بالنظام المالي العالمي.

بهذا المعنى، بات الاقتصاد اللبناني منذ أواخر عام 2019 يتسم بهشاشة وانكشاف شديدين، إزاء هذا النوع من العوامل الخارجيّة. وبخلاف الدول التي تملك حدًا أدنى من المناعة أو الحصانة، في مواجهة هذه المخاطر، لا يملك لبنان الكثير مما يمكن الرهان عليه حاليًا.

خوف المؤسسات والمنظمات الدوليّة، وخصوصًا مجموعة العمل المالي، من مخاطر تبييض الأموال في لبنان، يتصل بشكل أساسي بتفشّي اقتصاد النقد الورقي والاقتصاد غير الرسمي. وهذه الظاهرة، نتجت من انعدام الثقة بالمصارف اللبنانيّة بعد حصول الانهيار، واتجاه التجّار إلى التداولات الماليّة الخارجة عن النظام المالي الرسمي. وكما هو معلوم، تمثّل هذه التداولات، البعيدة عن رقابة السلطات النقديّة، بيئة خصبة لكل أنواع الأنشطة الماليّة غير المشروعة وتبييض الأموال.

لم تكن مجموعة العمل المالي المؤسسة الدوليّة الوحيدة التي تلتفت إلى خطورة هذا التطوّر. فخلال العام الماضي، حذّر البنك الدولي من توسّع نطاق اقتصاد النقد الورقي، الذي بات يستحوذ على أكثر من 46% من الناتج المحلّي الإجمالي، وهو ما يُعتبر نسبة مرتفعة بجميع المعايير.

وخلال العام نفسه، حذّر تقرير البعثة الرابعة لصندوق النقد الدولي من تداعيات "الدولرة النقديّة"، على مستوى مخاطر الأنشطة غير القانونيّة. ووجد الصندوق أن الظاهرة تمثّل عاملًا مساعدًا على توسّع أنشطة "الاقتصاد غير الرسمي"، الذي لا يخضع لرقابة السلطات الضريبيّة.

لتأكيد هذه المخاطر، تكفي مراجعة أرقام المصرف المركزي في لبنان، التي تؤكّد درجة انحسار تداولات النظام المالي الرسمي. هذه الأرقام، تؤكّد أن قيمة الشيكات التي جرى تداولها عبر النظام المصرفي بالعملات الأجنبيّة انخفضت إلى حدود الـ 516 مليون دولار خلال الربع الأوّل من هذه السنة، مقارنة بأكثر من 9.3 مليارات دولار خلال الربع الأوّل من عام 2019، أي في آخر الأشهر التي سبقت الانهيار المصرفي. وهذه الانخفاض، نتج تحديدًا من اتجاه التجّار إلى التداولات النقديّة، بديلاً من العمل عبر المصارف.

من المهم هنا الإشارة إلى وجود استنسابيّة لدى العديد من المؤسّسات الدوليّة والحكومات الأجنبيّة، عند تحديد مفهوم أو مخاطر تبييض الأموال والأنشطة الماليّة غير المشروعة. بل يمكن القول إن تحديد هذا المفهوم يرتبط بمصالح سياسيّة بالدرجة الأولى، قبل أن يرتبط بالتعريف القانوني المجرّد.

فالنظام المصرفي اللبناني لطالما كان، قبل عام 2019، مساحة مواتية للعديد من الأنشطة غير المشروعة، بفعل تطبيق قانون سريّة المصارف، الذي يحدّ من ولوج السلطات القضائيّة والرقابيّة إلى المعلومات المصرفيّة. وبعض هذه العمليّات كانت تنطلق من لبنان لتمرّ بالمصارف الغربيّة نفسها، كما عرفنا لاحقًا عند فتح ملفّات العمولات غير المشروعة في المصرف المركزي.

ومع ذلك، لم تكن المؤسسات الدوليّة والسلطات الأجنبيّة تصوّب على المخاطر المرتبطة بقانون سريّة المصارف قبل عام 2019، طالما أنّ المصارف ملتزمة قوائم العقوبات الغربيّة. بهذا المعنى، لم يكن الإثراء غير المشروع على حساب المال العام اللبناني، أو التهرّب الضريبي، يندرج ضمن هواجس تلك المؤسسات، عند تقييم مخاطر تبييض الأموال في لبنان. مع الإشارة إلى أنّ لبنان قلّص نطاق الحمايات الممنوحة بموجب قانون سريّة المصارف، عبر تشريع خاص عام 2022.

أمّا اليوم، فباتت المؤسسات الدوليّة أكثر خشية من مخاطر تبييض الأموال في لبنان، في ظل تفشّي اقتصاد النقد الورقي، الذي يسهّل أنشطة الجهات المُدرجة على لوائح العقوبات الغربيّة. وبعكس تداولات النظام المالي الرسمي الملتزم لوائح العقوبات، لا تخضع تداولات النقد الورقي والاقتصاد غير الرسمي لأي قيود أو ضوابط يمكن فرضها من الخارج.

عمليًا، هذا ما أكدته زيارة نائب مساعد وزير الخزانة الأميركي جيسي بيكر للبنان، خلال شهر آذار/ مارس الماضي. في تلك الزيارة، ربط بيكر بشكل واضح ما بين مخاطر عدم امتثال لبنان لمعايير مكافحة تبييض الأموال، وخشية السلطات الأميركيّة من وجود آليّات جديدة لتمويل الأطراف الخاضعة للعقوبات الأميركيّة. ولهذا السبب، ركّز بيكر في جولته على المسؤولين اللبنانيّين على عمل المؤسسات التي تنشط خارج النظام المصرفي، والتي يصعب تعقّب تداولتها من خلال المصرف المركزي.

لكن بمعزل عن استنسابيّة الأطراف الخارجيّة ومصالحها، الأكيد أن لبنان يملك مصلحة في تقليص نطاق اقتصاد النقد الورقي، والاقتصاد غير الرسمي الخارج عن رقابة الدولة. كما تملك البلاد مصلحة أكيدة في تفعيل أطر الرقابة على تبييض الأموال والأنشطة الماليّة غير المشروعة، بعد استيعاب تداولات السوق داخل النظام المالي الرسمي.

فالاقتصاد غير الرسمي، وتداولات النقد الورقي، يفتحان معًا المجال أمام جميع أشكال التهرّب الضريبي، بغياب أي قدرة على رصد الإيرادات التي تحقّقها المؤسسات في السوق. ومن المعلوم أن أبرز الإشكاليّات التي تواجهها الدولة اللبنانيّة حاليًا، تتمثّل بانخفاض نسب الامتثال الضريبي منذ عام 2019، في ظل صعوبة فرض الرقابة على الجزء الأكبر من الأنشطة الاقتصاديّة في السوق اللبناني.

كذلك يحتاج لبنان إلى أطر مناسبة لمكافحة تبييض الأموال، لتمكين الأجهزة القضائيّة من ملاحقة أنشطة الإثراء غير المشروع، وخصوصًا تلك التي تستنزف الأموال والموارد العموميّة. وهذا ما لا يمكن تحقيقه في ظل تفشي الأنشطة الاقتصاديّة الخارجة عن مراقبة النظام المالي الرسمي والسلطات النقديّة.

لكل هذه الأسباب، من المفترض أن يسعى المصرف المركزي لاستيعاب عمليّات السوق ضمن النظام المالي، وهذا ما يفرض استعادة الثقة بالمصارف اللبنانيّة بعد معالجة خسائرها وإعادة هيكلتها.

وبالتوازي، من المفترض أن تستفيد الأجهزة القضائيّة من التعديلات التي طرأت على قانون سريّة المصارف، لوضع الآليّات التي تسمح لها بتتبّع العمليّات الماليّة المشبوهة داخل النظام المالي، وتحديدًا تلك التي تنطوي على هدر للمال العام. وهذا ما يصبّ طبعًا في خدمة لبنان، بمعزل عن أي مصلحة أو أولويّة خارجيّة.