حسنا فعلت الحكومة المصرية ومعها البنك المركزي، حينما لم يستجيبا للضغوط الشديدة من قبل الدائنين الدوليين والإقليميين وبنوك الاستثمار الكبرى بإجراء تعويم رابع للجنيه في فترة متوسطة نسبيا لا تزيد عن 14 شهراً.
وحسنا فعلا حينما ضربا عرض الحائط بكل الضغوط التي يمارسها المضاربون وتجار العملة لإجراء تخفيضات متواصلة في قيمة العملة المحلية، وهو أمر إن حدث، أي التعويم المتواصل، فسيكون سابقة في تاريخ السياسة النقدية في مصر، ومؤشراً على أن العملة باتت تسير في قطار الخفض السريع، ووفق الضغوط والأهواء، وليس حسب العرض والطلب وحجم التدفقات النقدية والالتزامات الخارجية.
فالاستجابة السريعة لتلك الضغوط وغيرها، إن حدثت وتمت، والرامية إلى البدء في جولة جديدة من التعويم تعني أن العملة المصرية باتت تسير على هوى ورغبات أطراف خارجية وداخلية تسعى لتحقيق مصالحها الضيقة، وليس طبقا لمؤشرات اقتصادية ومعايير فنية.
يبدو من المشهد العام الحالي أن قرار التعويم الجديد للعملة جرى تأجيله بعض الوقت، ربما إلى نهاية يونيو/حزيران أو بداية العام المالي المقبل
أطراف خارجية تسعى لشراء أصول مصر برخص التراب، ومحلية تسعى لتحقيق أرباح سريعة حتى ولو كانت على حساب جثث ملايين المصريين الفقراء، واثارة الفوضى في سوق الصرف الأجنبي، وهز ثقة المصريين في عملتهم الوطنية.
ويبدو من المشهد العام الحالي أن قرار التعويم الجديد للعملة جرى تأجيله بعض الوقت، ربما إلى نهاية شهر يونيو/حزيران أو بداية العام المالي المقبل الذي يبدأ في الأول من يوليو/تموز المقبل، وأن الكثير من بنوك الاستثمار الدولية، ومنها "سيتي جروب" وبي إن بي باريبا وغيرهما، باتت تميل إلى سيناريو تأجيل إقدام الحكومة على إجراء خفض جديد في قيمة العملة انطلاقا من عدة مبررات.
من بين تلك المبررات الحرص على عدم حدوث زيادة كبيرة في الأسعار تعمق حالة الاحتقان الحالية في الشارع، وتشغل فتيل غلاء الأسعار، أو حدوث تضخم في الدين العام في حال رفع سعر الفائدة، وهو القرار الذي يسبق التعويم، حيث إن خفض الجنيه بشكل حاد قبل نهاية السنة المالية قد يعرقل خطط خفض عجز الميزانية واستقرار الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي.
ويبدو أن هناك قناعة لدى مسؤولي البنك المركزي بأن السوق السوداء تدفع العملة المحلية إلى منطقة شائكة وخطيرة ولها نتائج كارثية، وأن الاستجابة لضغوط صندوق النقد الدولي لإجراء خفض جديد ومتواصل في قيمة الجنيه هي أمر في منتهى الخطورة، خاصة مع تكراره خلال فترات قصيرة من دون الأخذ في الاعتبار تأثيرات الخفض الخطيرة على المواطن والأسعار والأسواق والتضخم.
تعويم الجنيه ليس هو العلاج الأمثل لحل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، فالتخفيضات السابقة لم تقضِ على السوق السوداء للعملة
وربما تكون هناك قناعة أيضا لدى صانع السياسة النقدية أن تعويما جديدا في قيمة الجنيه لن يقضي على السوق السوداء، أو يوحد أسعار الدولار في سوق الصرف، ما دام هناك شح في النقد الأجنبي والبنوك غير قادرة على تدبير كل احتياجات عملائها الدولارية، خاصة المستوردين والتجار.
كما أن تعويم الجنيه ليس هو العلاج الأمثل لحل الأزمة الاقتصادية والمالية التي تمر بها البلاد، فالتخفيضات الثلاثة السابقة التي جرت في أقل من 10 أشهر لم تقضِ على السوق السوداء للعملة، ولم تحقق استقرارا في سعر الدولار، بل على العكس، شهدت سوق العملة اضطرابات عنيفة صاحبها نشاط المضاربات على الجنيه خارج البنوك والصرافات.
والتعويمات الثلاثة السابقة لم تتسبب في حدوث قفزة في الإيرادات الدولارية، خاصة من أنشطة الصادرات وتحويلات المغتربين والسياحة، كما كان يروج البعض، ولم نشهد قفزة في الاستثمارات الأجنبية والمباشرة غيرها من إيرادات النقد الاجنبي على خلفية خفض قيمة العملة كما كان يتردد مع كل تعويم، بل زادت تلك الاستثمارات بسبب بيع الأصول من بنوك وشركات ومستشفيات وغيرها. ولذا كان من الضروري تأجيل خطوة التعويم الرابع.
ورغم تلك الاعتبارات وغيرها، فإن ذلك لا يعني أن سيناريو التعويم بات مستبعدا في الفترة المقبلة، في ظل استمرار شح الدولار، خاصة مع التراجع الملحوظ في تحويلات المغتربين، وتنامي ظاهرتي "الدولرة" الخطيرة وإقبال المصريين التاريخي على شراء الدولار والذهب، والغموض الذي يحيط بمستوى أسعار الصرف.
ومن بين الاعتبارت كذلك ضغوط صندوق النقد الدولي والصناديق السيادية الخليجية التي تسعى للاستحواذ على أصول مصر برخص التراب في حال خفض الجنيه، واتساع عجز صافي الأصول الأجنبية لمصر ليتجاوز 24.46 مليار دولار خلال شهر مارس/آذار الماضي، واستمرار تدخل بنوك القطاع العام في تحديد سعر الدولار بصورة تضعف الثقة في تبني نظام مرن لسعر الصرف، وهي الآلية التي تعهدت الحكومة لصندوق النقد بتطبيقها.
ذلك لا يعني أن سيناريو التعويم بات مستبعدا في ظل استمرار شح الدولار، وتراجع تحويلات المغتربين، وتنامي ظاهرة "الدولرة" الخطيرة
إضافة إلى زيادة الالتزامات الخارجية المستحقة على الدولة، وحسب الأرقام شبه الرسمية، فإن مصر مطالبة بسداد 7.2 مليارات دولار خلال العام المالي المقبل 2023-2024، وهناك توقعات بزيادة أسعار الغذاء والوقود عالميا، وهو ما يشكل ضغطا على الخزانة المصرية.