العالم "لبس" في حائط خرساني عازل وقوي وصعب الاختراق وملئ بالألغام، ودول دخلت في حائط فولاذي من المستحيل اختراقه وهدمه.
ومن المتوقع أن يلقي ذلك الحائط ببعض الدول في الهاوية حيث التعثر المالي والظلام وانقطاع الكهرباء وتردي الخدمات العامة وتهاوي العملات والفقر المدقع وتفاقم الدين العام واندلاع الإضرابات العمالية، وانهيارات في الأسواق المالية.
وفي حال إصرار بعض الحكومات على اختراق الحائط الفولاذي بطرق ملتوية غير سليمة، أو حتى بالتجاهل والتعامل مع الأزمات القائمة التي بداخله على أنها غير موجودة، وأن الزمن كفيل بمعالجتها فإنه يمكن أن ينصهر فيحرق الجميع، وهنا يخرج الناس بكثافة إلى الشوارع محتجين بحثا عن حقوقهم.
حتى لو توقفت الحرب في أوكرانيا، وانقشع خطر كورونا، فإن أزمات العالم الاقتصادية ومنها الغلاء لن تنتهي بين ليلة وضحاها
والحائط هنا، الحرب الروسية على أوكرانيا، والتضخم الجامح، ومتحورات كورونا، وقلق الأسواق والمستثمرين. وحتى لو توقفت الحرب في أوكرانيا، وانقشع خطر كورونا، فإن أزمات العالم الاقتصادية مثل تعطل سلاسل التوريد والغلاء وقفزات أسعار السلع، وفي مقدمتها الوقود، لن تنتهي بين ليلة وضحاها أو حتى خلال فترة زمنية مداها شهور.
ولن تتراجع أسعار القمح إلى 250 دولارا للطن كما كان الحال قبل الحرب، ولن تتراجع أسعار الحبوب والزيوت واللحوم والمعادن والسلع، ولن تتوقف البنوك المركزية العالمية عن سياسة رفع سعر الفائدة والتشدد النقدي.
وبالتالي لن تهنأ حكومات الدول بأيام واستحقاقات انتخابية سهلة في الفترة المقبلة، وقد نشهد تغيرات في خريطة وتركيبة حكومات وأحزاب عدة على غرار ما حدث في الانتخابات الأخيرة في فرنسا، وما قد يحدث في انتخابات الكونغرس الأميركي في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
وما حدث في بريطانيا اليوم الثلاثاء هو مؤشر أو بروفة مصغرة لما يمكن أن يحدث في العديد من دول العالم خلال الفترة المقبلة، فقد شهدت البلاد إضرابا عماليا واسعا هو الأضخم منذ 33 سنة شارك فيه عمال قطاع النقل وعمال السكك الحديدية ومترو الأنفاق والحافلات.
وهناك قطاعات وفئات أخرى تبحث الانضمام إلى الإضراب الواسع مثل الأطباء والمدرسين والمحامين والممرضات والعاملين المدنيين وموظفي الحكومة المحلية والبريد وأفراد المرور.
هل تتكرر إضرابات بريطانيا في دول أخرى ترفض أصلا حتى الاستماع لمطالب العمال والسماح بالإضرابات والاحتجاجات؟
وفي حال انضمام هؤلاء وغيرهم فإن بريطانيا قد تشهد أوسع إضراب في تاريخها يمكن أن تترتب عليه خسائر فادحة للاقتصاد الذي لم يتعاف بعد من أزمات كورونا والخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) وحرب أوكرانيا والتضخم.
في بريطانيا أضرب العمال بسبب عدم الاستجابة لمطالبهم، ومطالبهم تتلخص في تحسين أجورهم حتى يتمكنوا من ملاحقة غلاء المعيشة وفواتير الكهرباء والغاز والمواصلات وإيجارات السكن وغيرها.
وفي المقابل ترى الحكومة وأصحاب الأعمال أن هذا ليس هو الوقت المناسب لمثل هذه المطالب الفئوية. وهذه الحجة تجد صدى قوى في الدول النامية.
وربما تستمع حكومة بوريس جونسون في وقت لاحق لمطالب العمال وتستجيب لها إذا أصروا عليها، لكن هل يتكرر ذلك الأمر في دول أخرى ترفض أصلا حتى الاستماع لمطالب العمال والسماح بالإضرابات والاحتجاجات؟
عالميا، نحن أمام مشهد بالغ التعقيد، مواطنون يواجهون أشرس موجة تضخمية وقفزات في أسعار كل شيء، وتآكلا متواصلا في القدرة الشرائية، وبطالة وفقدان فرص العمل، وثباتاً في الأجور وأحيانا خفضا بالرواتب.
وفي المقابل حكومات تقول إنها لا تمتلك الموارد الكافية، ليس فقط لتمويل زيادة الأجور وتحسين الأحوال المعيشية للمواطن، لكن لتمويل دولاب العمل والمشروعات التنموية في الدولة والإنفاق على التعليم والصحة وغيرها من المنافع العامة.
هناك حكومات تستفز مواطنيها بقرارات تقشفية، وتسكب الزيت على النار وتشعل الحرائق في الأسواق عن طريق زيادة الأسعار والضرائب
ومع تنامي هذا الخلاف يخرج المواطن إلى الشارع محتجاً وغاضبا، وهنا يختلف رد فعل الحكومات، فهناك حكومات ستواجه الأمر بالقبضة الحديدية، وأخرى تقف عاجزة عن فعل شيء تجاه مطالب المواطن.
لكنها في المقابل لا تستفز مواطنيها بقرارات تقشفية، ولا تسكب المزيد من الزيت على النار وتشعل المزيد من الحرائق في الأسواق عن طريق زيادة الأسعار والرسوم والضرائب، بل تحاول تخفيف وطأة الأزمة بشتى الطرق.
الفترة القادمة صعبة على الجميع، والحكومات الذكية هي التي تبتكر حلولا خلاقة لاحتواء أزمة الغلاء، حلول لا تثقل كاهل المواطن وتزيد أعباءه المعيشية، بل تصب في صالحه، مثل خفض الأسعار والضرائب والرسوم ووقف العمل ببعضها، وخفض فواتير النفع العام من مياه وكهرباء وغاز منزلي، وتقديم المعونات النقدية، خاصة للفقراء والعاطلين من العمل.