يعيش اللبنانيون منذ بداية الأسبوع الماضي أزمة مستجدّة، تمثّلت في إقفال أبواب الفروع المصرفيّة أمام العملاء. ورغم فتح المصارف أبوابها أمس وسط اجراءات مشددة تصرّ على إيجاد معالجة أمنيّة شاملة من قبل السلطة، بعدما تكرّرت قبل الإقفال ظاهرة الاقتحامات المسلّحة للفروع من قبل المودعين المطالبين باستعادة أموالهم.
من الناحية العمليّة، تمتنع المصارف منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019 عن ممارسة الدور البديهي لأي قطاع مصرفي، في ظل الأزمة التي أدّت إلى حبس أموال المودعين والتوقّف عن منح القروض. ورغم ذلك، يمكن القول إنّ الإقفال المصرفي الراهن سيُثقل كاهل اللبنانيين بأعباء قد لا يتمكنون من تحمّلها.
فهذا الإقفال، يحول في الوقت الراهن دون تلقّي السوق المحلّي الدولارات الطازجة الواردة عبر التحويلات الواردة من المغتربين، والتي كانت محيّدة عن قيود السحب النقدي لكونها "أموالا جديدة".
كما يمنع ذلك إجراء التحويلات للاستيراد التجاري، والتي كانت تتم مقابل إيداعات نقديّة جديدة مباشرة في الفروع، ما يضيّق الخناق على سلاسل التوريد المحليّة.
وحتّى تحويل الأموال إلى حسابات توطين الراتب بات متعذّراً، وكذلك بيع الدولارات عبر "منصّة صيرفة" من خلال الفروع المصرفيّة، ما سيحيل المزيد من الطلب على الدولار إلى السوق الموازية، ويزيد من الضغط على سعر صرف الليرة فيها.
باختصار، وبغية الضغط لفرض الحل الأمني لأزمة المودعين، تقوم مصارف بفرض حصار خانق على الاقتصاد المحلّي. وحتّى الاكتفاء بفتح الإدارات العامّة للمصارف، أو عدد صغير من الفروع للمواعيد المسبقة، لن يسهم بأيّ انفراجة على هذا الصعيد، لكونه سيحصر الخدمات المصرفيّة بفئة محدودة من العملاء المحظيين، القادرين على الاستفادة من الخدمات المصرفيّة، في مقابل حجب هذه الخدمات عن سائر العملاء.
في جميع الحالات، ستخطئ المصارف اللبنانيّة إذا افترضت أنّها ستتمكّن من معالجة أزمتها مع المودعين بالإقفال المتكرّر في وجههم، لكونها ستعني الإطاحة نهائيًّا بالقطاع وإمكانيّة نهوضه. كما ستخطئ إذا افترضت أن الحل الأمني ممكن مع المودعين، في ظل محدوديّة موارد القوى الأمنيّة اللبنانيّة، وعدم قدرتها على حراسة مئات الفروع المصرفيّة على مدار الساعة ولفترات زمنيّة طويلة. باختصار، عمليّة الضغط التي تقوم بها المصارف مؤخرا عبر الإقفال لا أفق لها، على مستوى الوصول إلى حل حقيقي ومستدام.
وحتّى الاقتحامات التي قام بها بعض أصحاب الودائع خلال الأسابيع الماضية، والتي نجحت باسترداد جزء من أموال هؤلاء بقوّة السلاح، لن تمثّل حلا فعليا لأزمة المودعين. ففي النتيجة، مكّنت هذه العمليّات عشرات المودعين من استعادة جزء من أموالهم، دون أن تعالج فعليًّا أزمة 1.45 مليون مودع من أصحاب الأموال المحتجزة في النظام المصرفي.
ومن الناحية العمليّة، يدرك الجميع أنّ الميزانيّات المصرفيّة تمتلئ اليوم بنحو 73 مليار دولار من الخسائر المتراكمة بالعملة الصعبة، في مقابل 97.21 مليار دولار من الالتزامات المتوجّبة لمصلحة المودعين بالعملات الأجنبيّة.
ولهذا السبب، لن ينجح كلّ أصحاب الودائع باستعادة كامل أموالهم باعتماد القوّة المسلّحة وحدها، أو حتّى عبر الأحكام القضائيّة الصادرة عن المحاكم الأجنبيّة أو المحليّة، طالما أنّ كتلة الخسائر الموجودة كأمر واقع ستمنع الإيفاء بالتزامات المصارف لجميع المودعين دفعة واحدة. فمعالجة أزمة الودائع، ستحتاج إلى إطار أوسع من المعالجات، التي تتخطّى عامل القوّة المسلّحة أو الدعاوى القضائيّة فقط.
ومع ذلك، من المهم القول إنّ الدعاوى القضائيّة في المحاكم الأجنبيّة والمحليّة، وما جرى من اقتحامات للفروع المصرفيّة، تمكّنت من تشكيل قوّة ضغط يمكن أن تدفع باتجاه الحلّ الفعلي والشامل. فبعد نحو سنتين و11 شهرًا من حصول الانهيار المصرفي، ما زالت الأزمة متفلّتة من أي مسار للمعالجة الجديّة، فيما بات من الواضح أنّ العراقيل التي تمنع السير بالمعالجات تتصل برفض النخبة الماليّة والمنظومة السياسيّة لجميع شروط الحل. ولذلك، جاءت هذه الأحداث لتمنع تطبيع الوضع الراهن، ولترفض تكريس أزمة ودائع ما قبل أكتوبر 2019 كحالة طبيعيّة ومستدامة، كُرمى لمصالح الفئات النافذة في البلاد.
وبصورة أوضح، على أصحاب الودائع والجمعيات والروابط التي تمثّلهم توظيف ما جرى خلال الأسابيع الماضية واستثماره لدفع السلطة والمصارف باتجاه الحلّ الفعلي الشامل والعادل، وببرنامج عمل ومطالب واضحة ومباشرة، وعلى أساس خريطة طريق تتدرّج في استعادة انتظام القطاع المصرفي بعد التعامل مع خسائره.
خريطة طريق الحل الشامل تبدأ أولًا من عمليّة تدقيق جنائي ومحاسبي مركّزة في أرقام وميزانيّات المصرف المركزي، للوقوف عند تفاصيل موجوداته ووضعيّته الماليّة، ما يسمح بتقدير الحجم الفعلي والدقيق للخسائر التي ألمّت بأموال المودعين، التي أودعتها المصارف لدى المصرف المركزي، مع الإشارة إلى أنّ جميع تقديرات الخسائر تعتمد اليوم على أرقام تقريبية وعموميّة، لا تستند إلى تدقيق محاسبي مفصّل.
ومن الناحية الجنائيّة، على هذا التدقيق أن يدخل في تفاصيل التراكمات التي أدّت إلى هذه الفجوة، بما يشمل تحديد الفئات التي استفادت من أرباح فاحشة في الماضي، على حساب ميزانيّة المصرف المركزي. وهذا الجانب من التدقيق، سيكون ضروريًّا للبناء عليه في مرحلة التوزيع العادل للخسائر، وفقًا لتوزّع المسؤوليّات التي سيكشفها التدقيق.
وتجدر الإشارة إلى أنّ فئات معيّنة من أصحاب المصارف وكبار النافذين، استفادت في الماضي من العمليّات التي عُرفت بالهندسات الماليّة، والتي درّت عليها أرباحا غير منطقيّة.
بعد هذه الخطوة، من المفترض أن تنجز المصارف عمليّات التدقيق في ميزانيّات أكبر 14 مصرفًا لبنانيًّا، والتي نص عليها التفاهم على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي. وهذه العمليّة، ستسمح بتحديد المصارف القادرة على الاستمرار، بعد إعادة رسملتها، وتلك التي ستحتاج إلى الانخراط في عمليّات التصفية والدمج والاستحواذ، وفقًا لدرجة انكشاف كل مصرف على خسائر ميزانيّة المصرف المركزي.
في ضوء كل ما سبق، يمكن الدخول في عمليّة إعادة هيكلة القطاع، التي يجب أن تبدأ من تحميل الرساميل المصرفيّة، أي أسهم أصحاب المصارف الذين استفادوا من أرباح ومجازفات المراحل السابقة، أوّل شريحة من الخسائر، على أن يتحمّل هؤلاء كلفة إعادة رسملة مصارفهم أو إدخال رساميل إضافيّة وشركاء جدد. كما يفترض بعمليّة توزيع الخسائر أن تستعيد الأرباح الفاحشة التي استفاد منها كبار النافذين من المودعين في الماضي، وأن تتبّع الودائع الناتجة عن كسب غير مشروع وتهرّب ضريبي، والتي استفادت من ستار السريّة المصرفيّة في الماضي.
وفي كل هذه المسارات، على عمليّة توزيع الخسائر أن تستند للتدقيق الجنائي، ليتلاءم توزّع الخسارة مع توزّع أرباح المراحل السابقة.
وبعد تحميل كل هذه الفئات نصيبها من الخسائر، يمكن البحث في كيفيّة التعامل مع الخسارة المتبقية. يمكن عندها ضمان كل وديعة إلى أقصى حد ممكن، وفقًا لقيمة السيولة المتبقية في النظام المالي. وهذا المسار يمكن أن يسدد –بحسب تقديرات خطّة الحكومة- الالتزامات لكلّ مودع لغاية 100 ألف دولار، وهو ما سيسدد كامل الودائع الصغيرة والمتوسّطة (أي 88% من الحسابات المصرفيّة بحسب إحصاءات الحكومة).
أما بالنسبة للحسابات التي تتخطّى هذا الحد، والتي يتركّز فيها الجزء الأكبر من الأموال، فيمكن تحويل جزء منها إلى أسهم في المصارف، في عمليّة إعادة الرسملة، وتقسيط أجزاء أخرى بالعملة المحليّة، مع حسم الفوائد المرتفعة التي تم تقاضيها في الماضي.
في إطار عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، ستتنوّع الخيارات التي يقودنا كل واحد منها إلى نتائج مختلفة، لجهة الفئات التي ستتحمّل خسائر المرحلة. لكن أهم ما في الموضوع، هو الجرأة في مصارحة اللبنانيين تجاه حجم الخسائر الموجودة، وتجاه الفئات المسؤولة عن هذه الخسائر. ومن ثم مصارحتهم بالمسار الذي سينتهجه القطاع المصرفي للتعامل مع هذه الخسائر واستعادة انتظامه. عندها فقط، يمكن التأسيس للحلّ الفعلي والشامل لأزمة الودائع.