السوق السوداء للعملة: التونسيون يتداولون 6,6 مليارات دولار "كاش"

08 يوليو 2023
تصاعد التداول النقدي في الأسواق (فتحي بلعيد/ فرانس برس)
+ الخط -

كشفت معطيات البنك المركزي التونسي أن حجم الكتلة النقدية المتداولة في تونس زادت أكثر من 15 في المائة خلال عام واحد بين حزيران/ يونيو 2022 ويونيو 2023، لترتفع إلى 20.1 مليار دينار (ما يزيد عن 6,6 مليارات دولار)، مقابل 17,4 مليار دينار، أي نحو 5,8 مليارات دولار، خلال ذات الفترة من العام الماضي.

وخلال السنوات الماضية، حاولت سلطات تونس الحد من التداول النقدي وكبح جماح السوق الموازية للعملة عبر حزمة قرارات، من بينها تطبيق الإجراء الخاص بترشيد تداول الأموال نقداً في المعاملات التي تتجاوز قيمتها 3 آلاف دينار (نحو ألف دولار)، تطبيقا لأحكام قانون الموازنة لعام 2022 .

وبمقتضى هذا الإجراء، مُنعت كل الخدمات والعقود المتعلقة بالبيع نقداً في العقارات أو الأصول التجارية أو في وسائل النقل التي تقتضي تعاملات مالية نقدية تفوق الألف دولار، وتحويلها نحو معاملات مالية رقمية لكبح المال السائل المتداول خارج المصارف والتضييق على منافذ تبييض الأموال.

ويمثل المال السائل المتداول خارج المصارف واحدة من أبرز مشكلات الاقتصاد التونسي، بحسب مختصين في الشأن المالي الذين طالبوا بضرورة الإسراع في الانتقال إلى التعاملات المالية الرقمية وتقليص التداولات النقدية للحد من توسع الاقتصاد الموازي .

السوق السوداء للعملة

وقال رئيس هيئة الخبراء المحاسبين التونسيين وليد بن صالح إن التداول النقدي في تونس بلغ مستويات قياسية لم تعرفها البلاد سابقاً، مؤكدا أن الأموال السائلة تستعمل أساسا في الاقتصاد الموازي والاستهلاك. وأكد بن صالح، في تدوينة على صفحته الرسمية على "فيسبوك"، أن ما يزيد عن 170 مليون دينار (أي نحو 56,6 مليون دولار) خرجت من القطاع المصرفي في يوم واحد قبل عيد الأضحى.

ويتفق معظم الاقتصاديين في تونس على أهمية الحدّ من توسّع السوق السوداء للعملات نظرا لتداعياتها الوخيمة على مستوى تقليص حجم العملة المتداولة وزيادة معدل التضخم. وفسر الباحث الاقتصادي في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط حمزة المؤدب تعاظم الكتلة النقدية في تونس بتحوّل اقتصاد البلاد إلى اقتصاد "الكاش" بامتياز، بسبب تراجع الثقة في وسائل الدفع الأخرى وإخفاق السلطات في التحول الرقمي للمعاملات المالية .

وقال المؤدب، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن أغلب آليات الدفع تحوّلت إلى وسائل غير آمنة في نظر جزء كبير من التونسيين، ما يزيد الإقبال على التعاملات بالأموال السائلة.

وأفاد في ذات السياق بأن من أبرز وسائل الدفع التي فقدت مصداقيتها في تونس هي الشيكات البنكية، بسبب ارتفاع نسبة الشيكات من دون رصيد، مشيرا إلى أن التعاملات في الأوساط التجارية والصناعية أصبحت تعتمد أكثر فأكثر على النقد.

وكذلك، أكد الباحث الاقتصادي أن السلطات، خلال عقد من الزمن، لم تنجح في السيطرة على الاقتصاد الموازي الذي بات يسيطر على ما يزيد عن 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مشيرا إلى أن التحولات السياسية والاقتصادية التي عرفتها البلاد لم تؤثر في هذه السوق التي تتوسع بسبب الإخفاق الرسمي في احتواء السوق السوداء.

وأضاف المتحدث: "تضخم الكتلة النقدية والسحب المكثف للأموال من القطاع المصرفي يعكس أيضا عدم ثقة جزء من التونسيين في قدرة صناع القرار السياسي على إدارة الأزمة الاقتصادية والمصرفية، ما يجعل اكتناز الأموال نقدا الحل الأكثر أمانا بالنسبة إليهم" .

ورأى المؤدب أن الشيكات المصرفية فقدت مكانتها التاريخية كوسيلة دفع آمنة في المعاملات الاقتصادية والتجارية، لافتاً إلى أن العديد من التجار والصناعيين أوقفوا التعامل بهذه الوسيلة خوفا من الملاحقات القضائية والتبعات القانونية الناجمة عن عدم القدرة على السداد، مشيرا إلى أن كل تراجع لوسائل الدفع البديلة يعوضه التعامل النقدي.

شيكات بلا ثقة

بلغت قيمة الشيكات التي لم تُسدّد من طرف البنوك والبريد التونسي بسبب عدم كفاية الأرصدة، خلال الربع الأول من السنة الحالية، 818 مليون دينار (أي ما يعادل 272 مليون دولار)، بحسب أحدث بيانات نشرها البنك المركزي التونسي، بزيادة مقدرة بـ2,75 في المائة مقارنة بذات الفترة من العام الماضي.

وذكرت ذات البيانات أن التونسيين تداولوا خلال ذات الفترة 6.34 ملايين شيك، ومثلت قيمة الشيكات المتداولة 53 في المائة من إجمالي قيمة وسائل الدفع المختلفة بما يعادل 29.7 مليار دينار، أي نحو 10 مليارات دولار.

وكشفت البيانات ذاتها تواصل ضعف الاعتماد على وسائل الدفع الإلكتروني، إذ لم تتجاوز قيمتها 218.2 مليون دينار نهاية مارس/ آذار 2023، فيما بلغ عدد البطاقات البنكية والبريدية المتداولة 6.6 ملايين بطاقة، بزيادة جد طفيفة لا تتعدى 0.6 في المائة مقارنة بالعدد المسجل نهاية سنة 2022.

ويتضمن إجراء ترشيد تداول النقد في تونس، الذي جرى تفعيله منذ سنة 2018، عقوبات مترتبة عن الاختلالات التي يمكن تسجيلها في العمليات المالية النقدية، ويفرض تطبيق الإجراء الجديد عقوبة جبائية إدارية بنسبة 20 في المائة من المبلغ المدفوع نقدا، مع حد أدنى يساوي ألف دينار عن كل عملية نقل للملكية.

تأثير التضخم

وقال الخبير المالي خالد النوري إن الكتلة النقدية في تونس زادت خلال عام واحد بنسبة 14 في المائة، وبما قيمته 2,5 مليار دينار، معتبرا أن هذه الزيادة القياسية نتيجة حتمية لانفلات التضخم نظرا للعلاقة الطردية بين الظاهرتين بحسب كل النظريات الاقتصادية.

وأكد النوري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن التضخم هو ظاهرة نقدية تتميز باختلال العرض والطلب في سوق السلع والخدمات تزامنا مع دوامة زيادة الأسعار والرواتب.

واعتبر أن كل الأسباب الهيكلية لزيادة التضخم وانفلات الكتلة النقدية حاضرة في اقتصاد تونس، ما يجعل السيطرة عليها مستقبلا أمرا صعبا في غياب بوادر لاحتواء الأزمة. وأضاف الخبير المالي أن الأموال التي تتسرب من القطاع المصرفي تذهب مباشرة إلى السوق الموازية، التي تحوّلت إلى محرك رئيس للاقتصاد ومشغل لأكثر من نصف القوى العاملة في البلاد.

وفي شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، صعد التضخم في تونس إلى رقمين لأول مرة منذ أكثر من 3 عقود، بوصوله إلى 10,1 في المائة، ثم صعد خلال فبراير/ شباط إلى 10,4 في المائة.

لكن نسبة التضخم في تونس أخذت، في مايو/ أيار الماضي، مساراً تنازليا انخفاضا إلى حدود 9,6 في المائة مقابل 10,1 في المائة خلال شهر إبريل/ نسيان 2023، وفق بيانات نشرها المعهد الوطني للإحصاء، وكانت نسبة التضخم لا تتعدى 5,5 في المائة في يونيو/ حزيران 2021.

المساهمون