التضخم وشظايا حرب أوكرانيا تضع دول الرفاه الأوروبية في غرفة الإنعاش

21 يوليو 2023
احتجاجات ضد الحكومة الفرنسية بسبب الأوضاع الاقتصادية (Getty)
+ الخط -

يحاصر التراجع الاقتصادي الحاد والتحولات الجيوسياسية التي يشهدها العالم دولة الرفاه في أوروبا، إذ تعيش القارة في الوقت الراهن متاعب كبرى على صعيد تدني مستويات الدخل والوظائف ونمو الاقتصاد الكلي، وتراجع مؤسسات المجتمع المدني والحقوق التي توفرها دول المواطنة.

دفع هذا التراجع إلى تنامي الاضطرابات السياسية والاحتجاجات الشعبية على الحكومات التي فشلت في تأمين مستوى المعيشة وخدمات الرعاية الصحية وحقوق العمل التي توفرها دولة الرفاه، وفق محللين. وتبعاً لذلك، تخشى بعض المؤسسات من انفراط العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن في بعض الدول.

في هذا الصدد، يشير تقرير للمفوضية الأوروبية الصادر حديثاً إلى أن التغيرات الديموغرافية في القارة أدت إلى تقلص القوى العاملة، كما أن شيخوخة السكان رفعت من كلف الخدمات الصحية والرعاية الاجتماعية. ويرى البنك الدولي في تحليل حديث أن الحرب الأوكرانية وجهت ضربة قاضية لمعدل النمو الاقتصادي بدول القارة الأوروبية خلال العام الجاري 2023، كما أن التضخم أدى إلى تآكل ادخارات كبار السن وتدهور مستويات المعيشة فوق خط الفقر وتراجع حجم الطبقة الوسطى كنسبة من المجتمع.

في ذات الصدد، يقول موقع "إي بي أيه"، إن تدفقات الهجرة من الدول الفقيرة ومناطق الحروب أرهقت ميزانيات الدول، حيث رفعت من الإنفاق على البطالة والسكن المدعوم من قبل الدول الأوروبية. وتبعاً لذلك، زادت المخاطر على مستقبل دولة الرفاه، إذ باتت الموارد المالية المتاحة للحكومات غير كافية لتلبية متطلبات الخدمات ومستوى المعيشة المنصوص عليها في دولة الرفاه.

ودخلت منطقة اليورو في هاوية الركود الاقتصادي منذ بداية العام الجاري، إذ تقلص النمو بنسبة 0.1 في المائة للربع الثاني على التوالي، حسبما أظهرت الأرقام الصادرة عن وكالة الإحصاء الأوروبية "يورو ستات" في يونيو/حزيران الماضي.

كما توقعت المفوضية الأوروبية في منتصف مايو/أيار أن يصل النمو الاقتصادي لهذا العام إلى 1.1 في المائة في الـ 20 دولة التي تستخدم العملة الموحدة.

من جانبها، توقعت الخبيرة الاقتصادية في بنك "آي أن جي" الهولندي، شارلوت دي مونبلييه، أن يتراجع النمو الاقتصادي لعام 2023 إلى 0.5% فقط. وتضيف أن "الاقتصاد الأوروبي دخل في مرحلة ركود ويواجه صعوبة في اجتياز الشتاء بسبب صدمة الطاقة".

ودولة الرفاه هي التي تلعب فيها الحكومة دورًا رئيسياً في حماية وتعزيز الرفاه الاقتصادي والاجتماعي لمواطنيها، وتستند إلى مبدأ التوزيع العادل للثروة والمسؤولية العامة وتكافؤ الفرص لأولئك الذين ليس لديهم الحد الأدنى من المخصصات لحياة مريحة. وعادة ما تضع دولة الرفاه حدوداً دنيا للدخل الذي يحقق حياة كريمة لمواطنيها وتدافع عن حماية هذا الحد عبر تقديم الدعم المالي والخدمي للفقراء.

لكن ما هي العقبات التي تواجه دولة الرفاه؟

في هذا الشأن، تقول بيانات منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، إن معدل الاستهلاك للأفراد تراجع بنحو واحد في المائة في منطقة اليورو التي تضم 20 دولة منذ نهاية عام 2019، في الوقت الذي ارتفع فيه معدل الاستهلاك في الولايات المتحدة بنسبة 9%، حيث تتمتع الأسر الأميركية بسوق عمل قوي، وبالتالي بدخل مرتفع.

وحسب بيانات المنظمة التي تضم الدول الغنية يمثل الاتحاد الأوروبي الآن حوالي 18% من إجمالي الإنفاق الاستهلاكي العالمي، مقارنة بـ 28% لأميركا. وقبل خمسة عشر عامًا، كان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يمثلان حوالي ربع هذا المجموع.

على صعيد الأجور بعد تعديل التضخم والقوة الشرائية، لاحظت المنظمة أن الأجور تراجعت في ألمانيا، أغنى دول أوروبا بنحو 3% منذ عام 2019 وبنسبة 3.5% في إيطاليا وإسبانيا، وبنسبة 6% في اليونان. وهذا التراجع يحدث في الوقت الذي ارتفعت فيه الأجور الحقيقية في الولايات المتحدة بنحو 6% خلال نفس الفترة.

ومن مظاهر تلاشي دولة الرفاه في أوروبا ظهور متاجر لبيع الأطعمة التي انتهى تاريخ استخدامها، ولكن لم تنته صلاحيتها.

وحسب تقرير في صحيفة "وول ستريت جورنال"، وقف المعلمون والممرضات في بروكسل، عاصمة لوكسمبورغ، التي تعد واحدة من أغنى مدن أوروبا، في صف طويل في إحدى الأمسيات الأخيرة لشراء الخضر والفاكهة بنصف السعر من شاحنة، ويتخصص البائع بجمع الطعام بالقرب من تاريخ انتهاء صلاحيته من محلات السوبر ماركت والإعلان عنه من خلال أحد التطبيقات في الإنترنت.

وظهرت خدمات مماثلة في جميع أنحاء أوروبا. ففي الدنمارك التي تصنف على أنها أفضل دولة في العالم لتربية الأطفال والحياة السعيدة، تتراجع مستويات المعيشة، إذ تأسست شركات لبيع بقايا الطعام للمواطنين، من بينها شركة "تو غود تو قو"، وهي شركة تأسست في الدنمارك في عام 2015 وتبيع بقايا الطعام من تجار التجزئة والمطاعم، ولديها الآن نحو 76 مليون مستخدم مسجل في جميع أنحاء أوروبا، وهو ما يقرب من ثلاثة أضعاف العدد في نهاية عام 2020.

وفي ألمانيا، تقدم شركة "سير بلس"، وهي شركة ناشئة تم إنشاؤها في عام 2017 وتتخصص في بيع المواد الغذائية التي تجاوزت تاريخ بيعها، ولكنها لا تزال صالحة للاستهلاك، وكذلك الحال بالنسبة لشركة "موتاتوس"، التي تم إنشاؤها في السويد عام 2014، وهي موجودة الآن في فنلندا وألمانيا والدنمارك والمملكة المتحدة.

وتعد دولة الرفاهية في أوروبا أكبر إنجاز حققته أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية في عام 1945، إذ ساهمت في الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي والتماسك الاجتماعي ولا يمكن تصور الحياة بدونها، ولكن في الوقت نفسه، فإن دولة الرفاهية باتت تعاني تحت الحصار في الوقت الراهن، إذ تواجه دول القارة العديد من التحديات الديموغرافية والأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية.

ووسط هذه التحديات، لجأت الحكومات إلى سياسات تقشف وتقليص الخدمات والتخلي عن الشبكات الوقائية التي ضمنتها دولة الرفاه لمواطنيها. وكانت النتيجة الحتمية التفاوت الكبير في الدخول والخدمات وتراجع الحد الأدنى لمستويات المعيشة.

المساهمون