مطاردة أشباح إيلينا فيرانتي

22 يناير 2019
(مشروع للفنان الفرنسي جي آر في نابولي، فرانشيسكا فيرارا)
+ الخط -

سجّل الأدب الإيطالي في السنوات الأخيرة عودة قوية إلى ساحة السرد العالمي بعد غياب طويل نسبياً عن قوائم "الأكثر مبيعاً"، حيث كان أومبرتو إيكو (1932 ـ 2016)، رائد روايات التشويق الفكرية، آخر الأسماء الإيطالية المكرّسة والتي نجحت في اختراق البوابة الأميركية بالخصوص، وقبله حضر إيتالو كالفينو (1923 ـ 1985) الروائي الإيطالي الأكثر ترجمة إلى لغات العالم إلى غاية رحيله.

عادت إيطاليا مجدّداً إلى قوائم الأكثر مبيعاً في أميركا، من خلال ما أصبح متعارفاً عليه عالمياً باسم "الكاتب/ة الشبح"؛ إيلينا فيرانتي، والتي اختارت الانطلاق في روايتها الأولى عام 1992 تحت اسم أنثوي مستعار لأسباب شرحتها من خلال كتاب صدر لها عام 2003، برّرت فيه سبب إخفاء هويتها، مؤكدة الرغبة في الحفاظ على خصوصيتها. إلا أن المثير للاهتمام لدى "فيرانتي"، وعلى عكس إيكو وكالفينو اللذين تميّزا ببصمة أدبية يعتبرها النقاد توقيع الروائي الحقيقي على نصّه قبل اسمه، أو ما يعرف بـ"الأسلوب"، فإن تغييب هوية الكاتبة الإيطالية ترافق مع غياب الأسلوب.

فبالرغم من أن الكاتب/ة/الكتّاب، صاحب/ة/أصحاب الاسم المستعار إيلينا فيرانتي، قد دخلت عام 2016 قائمة الشخصيات الأكثر تأثيراً في العالم بحسب مجلة "تايم"، إذ قوبل عملها "الصديقة المذهلة" بُعيد ترجمته إلى الإنكليزية عام 2012 وما أعقبه من أجزاء، بحماس إعلامي ونقدي بالغ في أميركا، إلا أن الرباعية ذاتها التي أصبحت تعرف في أميركا باسم "روايات نابولي" لم تقابل بالحماس النقدي ذاته في موطنها الأصلي.

هناك، يكاد يُجمع النقاد على غياب أي أسلوب مميّز لـ"الكاتبة الإيطالية" الأكثر شهرة في العالم حالياً، فيذهب فرانتشيسكو لونغو للقول في تصريح لصحيفة "ميساجيرو" إن "فيرانتي حكواتية ماهرة لكنها ليست كاتبة. لغتها هي ركام من نعوت مستهلكة ومتوقعة لحد كبير. كما أن كل شيء لديها يبدو وكأن الألسن قد لاكته مسبقاً. لا يوجد أي اختراق. كتابتها ملحمية لكنها خالية من أي أسلوب. والأدب في النهاية ليس سوى الأسلوب".

أما ماسيمو أونوفري الذي أشاد بالجزء الأول من الرباعية من حيث نوعية الكتابة التي تنمّ عن ذكاء حياتيّ ولغة خالية من التزويق والبهرجة، إلا أنه عاد ليؤكد مع ذلك بأن "الصديقة المذهلة كتاب غير فريد من نوعه، والأهم أنه بعيد كل البعد عن الهموم الأسلوبية، والبنيوية والمعرفية للأدب في أيامنا هذه".

في السياق نفسه، يرى فيليبو لابورتا أن لغة الكاتبة في رواياتها التي حققت النجاح الأكبر في أميركا، فيها قدر كبير من التسطيح بدأت ملامحه تظهر مع الإصدار الثالث للروائية عام 2006، وذلك بالرغم من أن العملين الأولين لفيرانتي الصادرين عامي 1992 و2002 حملا ملامح إبداعية كانت تبشّر بولادة كاتبة ذات أسلوب مميز. إلا أنه ومع توالي إصدارات فيرانتي بدأت الخيبة تظهر على الكثير من النقاد الإيطاليين ومنهم لابورتا الذي يقول عن نفسه إنه توقف عن متابعتها. ويتفق باولو دي باولو معه في أن فيرانتي لم تبق وفية لبدايتها وأن أسلوبها الحالي في الكتابة هو أسلوب رشيق نعم، لكنه أسلوب مسلسلات ليس أكثر.

لكن إن كانت جماهيرية فيرانتي تعود إلى إرضاء القرّاء العاديين ومنحهم متعة متابعة المسلسلات، بحسب وصف النقاد، فهل أن ذلك كاف لتفسير الاحتفاء العالمي بها، وصولاً إلى اعتبارها "من بين أهم روائيّي الحقبة المعاصرة" بحسب نيويورك تايمز؟

اشتغلت أناليزا ميريلي على هذه المفارقة، وخلصت إلى أن "أسلوب فيرانتي في الترجمة الإنكليزية أفضل من الأصل الإيطالي". وقد ساقت ميريلي عدداً من الأمثلة تدلّ على تفاوت لغة الترجمة ولغة الأصل، حيث بدا من الواضح أن مترجمة فيرانتي الأميركية، وهي آن غولدستاين، قد رفعت من مستوى أسلوب "الصديقة المذهلة" في الترجمة الإنكليزية في الوقت الذي كانت فيه لغة الرواية الأصل الصادرة، "مفتعلة" و"شحيحة على صعيد المفردات"، مليئة بالـ"التركيبات الفوضوية"، وذات "نبرة يعوزها الاتساق". هذا عدا عن تأكيد ميريلي أن السبب الرئيسي للاهتمام الكبير في أميركا وقبل ذلك في إيطاليا بفيرانتي هو هويتها الغامضة بالدرجة الأولى، وهو أمر يتفق عليه المعجبون وغير المعجبين على حد سواء.

هوية الكاتبة المجهولة كانت قد أثارت حمى من الاهتمام العالمي، جعل الصحيفة الألمانية "فرانكفورتر ألماين زيتونغ" تعنون إحدى مقالاتها عن فيرانتي بـ"اللغز الأدبي الأكبر في عصرنا الحديث"، حيث بلغ الهوس بهوية فيرانتي حد القيام بتحقيق صحافي وُصف بـ"المنافي للأخلاق"، نشر على "إل سولي 24 أوري" عام 2016، أقدم فيه الصحافي كلاوديو غاتي على تتبّع حركة الحسابات البنكية لدار نشر الكاتبة في إيطاليا، وتمكنه من رصد زيادة مداخيل غير طبيعية لدى إحدى المتعاقدات مع الدار واقتناء زوجها لعقارات باذخة تزامنت مع نجاحات فيرانتي.

هذا بالإضافة إلى الأبحاث الأكاديمية والمؤتمرات العلمية التي خصّصت لكشف هوية الكاتبة، وكان آخرها ورشة في جامعة بادوفا، جمعت في أواخر عام 2017 باحثين عالميين متخصّصين من ميادين عدّة على غرار الأميركي باتريك جولا، والخبير البولندي في الآداب الكلاسيكية ماسييج إيدير، والباحث في نظرية الترجمة جان ريبيك، بالإضافة إلى خبير المعلوماتية السويسري جان ريبيك، ومطوّر برامج الكمبيوتر الفرنسي بيير راتينو، واللساني اليوناني جورج ميكروس حيث اعتمد الفريق أساليب إحصائية عالية الدقة لتحديد هوية الكاتبة، وذلك من خلال تحليل مدونة شملت 150 رواية لأربعين كاتباً إيطالياً معاصراً. وفي الرد عن مدى أخلاقية هذه الدراسة في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات لـ"ترك الكاتبة تعيش في سلام"، أكد ميكيلي كورتيلاتزو أحد أعضاء فريق البحث على أن "الدراسة عنيت بالنص والأسلوب فقط لا بمعطيات الكاتبة البيوغرافية".

والحقيقة أن استعصاء الفصل بين شخص الكاتب ونصّه، حدّ استحالة محو الحدود بينهما، يعود إلى مفهوم الأسلوب نفسه الذي ولد ضمن الثقافة الغربية مع بدايات عصر النهضة، والذي اختصره بيفون عام 1753 في خطابه الشهير أمام الأكاديمية الفرنسية بقوله "الأسلوب هو الإنسان". والأكيد أنه كلما تميّز الأسلوب، سهُل التعرّف إلى بصمة مبدعه الجينية، وصنع تفرّده، وليس العكس. فهل تعتبر ظاهرة إيلينا فيرانتي ردّة على مفهوم "الأسلوب" في الثقافة الغربية؟

للحديث عن مركزية المبدع من حيث أنه تجسيد لفعل الخلق في العقل الغربي، لا بد من العودة إلى عصر النهضة حيث بدأت فكرة الأسلوب تتبلور مع التركيز على محورية الإنسان في الكون، وحيث إن الأسلوب الشخصي لكل فنان كان يحيل إلى "خالقه".

إلا أن فكرة إسناد الأعمال العبقرية الكبرى إلى اسم واحد قد تعيدنا إلى ما هو أبعد من عصر النهضة وإلى اسم هوميروس بالتحديد الذي يعرف بأنه مؤلف النصين المركزيين الأهم في العصور القديمة، الإلياذة والأوديسة. وبالرغم من أن هوميروس قد حظي كما هو متوقع من علماء عصر النهضة بالكثير من الاحتفاء حيث اعتبر الشاعر الأعظم الذي تجسد أعماله معاني الحكمة المطلقة، إلا أن الراهب والكاتب الفرنسي فرانسوا إيدلان (1604ـ 1676) لم يتوان عن شن هجوم لاذع على الشاعر الأسطوري واصفاً ملحمتيه "بعدم الاتساق وقلة الذوق وانعدام الأسلوب"، بل ذهب لتأكيد أن الملحمتين ليستا إلا أبياتاً من أشعار غنائية لا علاقة لها ببعضها بعضاً رُصفت على عجل من طرف شعراء رديئين، وأن هوميروس شخصية غير موجودة بالأساس.

وبالرغم من أن هذا الرأي، الذي لم ينشر إلا بعد أربعين سنة من وفاة إيدلان، كان يمكن قراءته على أنه وليد الصراع الذي كان دائراً حول تحديد مركزية الخلق، بين إنسانيّي عصر النهضة وممثلي المؤسسة الدينية آنذاك، إلا أنه شكّل النواة الأولى للمسألة الهوميرية التي لا تزال تشغل الكلاسيكيين إلى يومنا هذا، والتي خلصت أغلب الأبحاث حولها إلى نتيجة واحدة وهي أن الإلياذة والأوديسة ليستا من صنع شخص واحد، وإنما نتاج تاريخ طويل من التقاليد الشفوية في المنطقة.

والواقع أن النصوص العظيمة التي خلقتها الجماعة المتناغمة لم تعد يوماً حدثاً طارئاً في تاريخ الأدب العالمي، والدليل كتاب "ألف ليلة وليلة"، التي لم يشعر العقل الشرقي يوماً بالغضاضة في كونه من تأليف جماعي واستمر توالدها على مر السنين إلى أن اكتمل شكلها ضمن احترام تام للقصة الإطارية التي لا يُعرف واضعها، على غرار الملحمتين الإغريقيتين، لكن من دون أن تنسب لاسم مبدع واحد حقيقي كان أم متخيلاً، وذلك على الأرجح لتوافق فكرة التأليف الجماعي مع المعتقدات السائدة في المنطقة، والتي لم تكن ترى في فكرة تميّز الأسلوب وضرورة البروز الفردي دليلاً على الإبداع.

وبالعودة إلى ظاهرة فيرانتي، ولدى تأمل كرونولوجيا ظهورها، يبدو جلياً في لحظة معينة من تاريخ نجاحها العالمي بدء العمل على إنتاج ماركة إيطالية، تم فيها إعادة خلق أجواء السرديات الكبرى بكامل تفاصيلها. وذلك من خلال إذكاء الفضول حول هوية الكاتبة الخفية، وما يضفيه ذلك عليها من هالة أسطورية. ثم إطلاقها لأعمال ذات طابع ملحمي ونكهة محلية طاغية. وهي أعمال قد لا تفتح بالضرورة نوافذ حقيقية على الشعوب، حيث يؤكد باولو دي باولو أن روايات فيرانتي تغذي الكثير من الصور النمطية عن إيطاليا.

وكان غوفريدو فوفي، وهو أحد النقاد المتحمسين لفيرانتي منذ بداياتها، قد ردّ عما إذا كانت فيرانتي تمثل الأدب الإيطالي المعاصر بالقول: "الصديقة المذهلة تقدم تلك الصورة المتعارف عليها عن إيطاليا ونابولي، الصورة الموجودة في عقول الأميركيين". هذا عدا عن أن المعطيات البيوغرافية التي سربتها فيرانتي عن نفسها في حوارات مدروسة، جعلت من سيرة حياتها أشبه بكولاج شعبي بامتياز يحوّلها لحكاية سردية إيطالية كبرى تبدأ من فترة ما بعد الحرب إلى أيامنا هذه. فهي امرأة من مواليد 1943 في نابولي، ابنة خياطة لا تتحدث سوى اللهجة المحلية، لكنها هي نفسها تحمل خلفية فكرية صلبة من حيث إنها أستاذة ومترجمة.

مع الإشارة إلى أن الناقد الأدبي رومانو لوبيريني شكك في انتماء فيرانتي للأوساط الأكاديمية وذلك بسبب "انعدام الحس النقدي في كتاباتها عن هذه القضايا". وتجدر الإشارة إلى أن البيوغرافيا الرسمية التي قدمتها فيرانتي عن نفسها لا تتطابق مع نتائج الأبحاث العلمية والتحقيقات المالية التي طاولته/ا.

والأرجح هو أن إيلينا فيرانتي اسم ذو بيوغرافيا مختلقة (على غرار بيوغرافيا هوميروس) وأن أعمالها كتبت بشكل جماعي. وهو ما يفسّر تحوّل أسلوب الكاتبة فجأة إلى أسلوب الحكواتيين من دون أي بصمة أسلوبية مميزة، إلى درجة دفعت لوربيني لوصف أسلوبها في رباعية نابولي بأنه ذو منسوب أدبي يقترب من الصفر. ويرجّح ناقد إيطالي آخر هو ماركو سانتاغاتا فرضية التأليف الجماعي للروايات التي حققت نجاحاتها الأميركية. وهو ما يتفق معه باولو دي باولو الذي يعتقد أن ثمة مجموعة كتّاب وراء أعمال فيرانتي الأخيرة على غرار ورشات تأليف المسلسلات التلفزيونية.

أما إيلسا داميان، مترجمة فيرانتي إلى الفرنسية، فقد أعربت هي الأخرى عن صدمتها من الانقطاعات الأسلوبية الموجودة ضمن روايات نابولي نفسها وهو ما قد يشير إلى تعدد أيادي الكتابة.

فهل أصبحت ظاهرة إيلينا فيرانتي هي الإعلان الرسمي عن بطلان "الأسلوب" المتفرد في العرف الغربي للإبداع، لتغدو بذلك التجلي الأبرز لمفهوم "موت الأدب" بتعبير ألفين كرنان. أم أنها على حد وصف الصحافية فريديركا راندل ليست سوى مجرد "فكرة تجارية مذهلة" قد ينطفئ وهجها بمجرد بروز أفكار تسويقية أكثر عبقرية؟

المساهمون