أنيس الأسود: الطفولة منجم الحكايات

09 ابريل 2018
(أنيس الأسود)
+ الخط -

كان لطفولة المخرج والمنتج التونسي أنيس الأسود في مدينة نابل أثر كبير على تجربته السينمائية، حيث تتبّع في بعض أعماله الصور الأولى الهاجعة في الذاكرة، ليحوّلها إلى متعة بصرية نوستالجية عبر تسعة أفلام آخرها "القوس"؛ قيد المونتاج.

يقول الأسود (1972) في حوار مع "العربي الجديد"، على هامش مشاركته في "الملتقى السينمائي" الثاني الذي عقد في مسقط مؤخراً، والذي خصص دورته الأخيرة لـ"سينما الطفل"، بأنه مسكون بطفولته الشخصيّة، وبالطفولة إجمالاً، التي يرى أنها "تجسيد لهوية المكان، حيث إنها تقدم لنا وثيقة عن صيرورة المكان وتحوّلاته، وقدرته على الحفاظ على هويته، خصوصاً في القرى، من خلال وجوه الأطفال وملامحهم وأحلامهم وأغانيهم، بل ومشاكلهم، فالطفولة أبرز ما يتبقّى في المكان من هوية وروح وجمال" على حد تعبيره.

يعود بنا مخرج فيلم "الصور المفكّكة" (1998)- أنجزه كمشروع تخرّج في الإخراج السينمائي من "المعهد المغاربي للسينما" في تونس- إلى مدينته نابل (تبعد 60 كلم عن العاصمة تونس)، التي ولد فيها وعاش طفولته وصباه "حيث البحر والجبل والماء العذب والعائلة الكبيرة وسط قرية ساحلية وجبلية في نفس الوقت".

عن المدينة التي تشتهر بتقطير ماء الورد والزهر والأعشاب، يقول الأسود: "عشت طفولتي وسط هذه الروائح والعطور الفوّاحة، خصوصاً في فصل الربيع، ما انعكس على تجربتي السينمائية، وهذا ما يلمسه المشاهد في أفلامي". هنا يلفت إلى فيلم "صبّاط العيد" (2013)، الذي انطلق في قصّته من طفولته الشخصية، يتذكر: "ذهبت مع والدي إلى السوق لشراء ملابس العيد، وهناك تسمّرت أمام أحد محلات بيع الأحذية حين وقعت عيني على حذاء جميل، بهرني لونه البني وخيوطه. وذهب أبي دون أن أشعر بغيابه ولما عاد ورآني أتأمل الحذاء البني صاح بي: لا تتركني ثانية، أنت تائه وحالم. فرددت عليه من دون أن أشيح نظري عن الحذاء: من فضلك أريد هذا الحذاء. ونظر إليّ أبي نظرة طويلة ثم دخل المحل وأخذ يتفاوض مع البائع فقد كان سعره غالياً، كان مشهداً لن أنساه طيلة حياتي؛ أبي يدافع عن حلم طفل عمره ست أو سبع سنوات، وأنا أتأمله مبهوراً بعينين واسعتين كعين كاميرا سينمائية أكثر من الحذاء، وحين عدنا إلى البيت وبّخته أمي لأنه كان بإمكانه أن يشتري بثمن حذاء واحد ثلاثة لي ولإخوتي!".

نهاية "صبّاط العيد"، الذي حصل على ثلاثين جائزة حول العالم وعرض في أكثر من 200 مهرجان، لا تشبه القصة الحقيقية بل تنتهي بطريقة معكوسة؛ إذ يعجز الأب عن شراء الحذاء؛ "قلب الحكاية هنا كان مقصوداً مني كنوع من تضامني مع آلاف الأطفال الذين يعجز آبائهم عن شراء حذاء العيد لهم".

وحول فيلم "صابة فلوس" (2006) -الذي تم اختياره في مهرجان "كان" الدولي ضمن مسابقة "كل سينما العالم" وفاز بجوائز في المهرجانات العربية والدولية- يوضح المخرج: "الفيلم يدور حول حكاية طفل يزرع عملات نقدية تحت الأرض ويتعهد بسقايتها يومياً، على أمل أن تكبر وتثمر نقوداً مثل شجرة"، الفيلم ينطلق من حادثة شخصية أيضاً في طفولة الأسود. يبين: "أظن أنني كنت سعيداً في طفولتي رغم قلّة الإمكانيات، وهذا ما يجعلني أتشبّث بها في أفلامي، والجمال فيها لم يكن في كثرة الألعاب واللهو، بل في الاستمتاع الحقيقي بالدقائق القليلة عند ركوب أرجوحة مثلاً فيما يصفق لك رفاقك، وهذا ما نفتقده في طفولة اليوم، حيث كل طفل مشغول بلعبته الخاصة التي لم يصنعها خياله أيضاً كما كنا نصنع الألعاب والدمى بأنفسنا. باختصار أفلامي حنين إلى فردوس الطفولة المفقود".

أطلق الأسود مشروع "أطفال القرى" بدعم من قناة "الجزيرة" للأطفال، وهو عبارة عن مجموعة من الأشرطة جرى تصويرها في موريتانيا، والجزائر، وتونس، والأردن، واليمن، وهي تعنى بأطفال القرى، وقد أخرج منها حتى الآن ثلاثة أفلام هي: "بنت ولد" عن أطفال من اليمن، و"غداً... بثينة" من الجزائر، و"يعقوب ابن البحر" من موريتانيا. ويعد حالياً فيلماً عن أطفال قرى عُمان، حيث يرى أن هذا المشروع "يبحث في هوية المكان من خلال الأطفال، فأبطال هذه السلسلة هم أطفال عرب، نتحدّث عن أحلامهم ونرى الغد من خلال أعينهم، وليس من خلال أعين الكبار، ما يساعدنا على التكهّن بطموحاتهم مستقبلاً، فنحن لا زلنا نمارس وصاية على أحلام الصغار".

يختار المخرج أطفال القرى النائية والبلدات الصغيرة لأنها بعيدة عن كل مقوّمات الحياة الحضارية من رفاهية العيش وسهولته، سعياً لأن يجد الجواب الحقيقي والأصلي لطفل بعيد عن رفاهية العيش؛ بماذا يحلم؟ هؤلاء أطفال يدرسون ويساهمون في اقتصاد الأسرة، ويرعون الأغنام، ويساعدون في أشغال الفلاحة والزراعة، أو في الأعمال المنزلية.

عن العمل الوثائقي "بنت ولد" الذي يدور في اليمن، والذي بدت لغته الروائية متماسكة، وأقرب إلى الفيلم الروائي الذي يقفز في الزمن والمكان، بلغة بصرية تحتشد فيها الصور والألوان والروائح، بل والعوز والفقر دفعة واحدة، يؤكد بأن تجربة الفيلم من أجمل تجاربه السينمائية: "يعود اهتمامي باليمن من خلال كتاب "الرحلة اليمنية" للمفكر التونسي عبد العزيز الثعالبي (1874-1944)، وهذا ما شاقني لتصوير فيلم عن اليمن وسافرت في رحلة إليها، وهناك التقيت بالطفلة هناء التي ستصبح بطلة الفيلم، وهي بنت من جبال "حراز"، كانت تساعد والدها في كسب العيش من خلال بيع الفضيّات والمشغولات اليدوية للسياح، وتتعلم اللغة الإنكليزية في نفس الوقت لتساعدها على التفاهم معهم".

يكمل "كانت هناء "بنت ولد" حقيقية وهذا ما دفعني للتحدّث مع عائلتها بهدف صناعة فيلم عن المكان اليمني، من خلال حياتهم. صوّرنا الفيلم بالفعل وعرضناه عليهم للمرة الأولى؛ وكم كانت سعادتهم بالغة حين شاهدوا العرض الذي أنجزه طاقم سينمائي يمني تونسي. هو من الأفلام التي ساعدتني على دخول العائلة اليمنية والتعرف عن قرب على عاداتها وتقاليدها وأحلامها وكفاحها اليومي، رغم أنه صوّر للتلفزيون إلا أنه صور كفيلم سينمائي، وبدا كما قلت أشبه ما يكون بالفيلم الروائي الطويل".

يذكر أن للمخرج التونسي عدة أفلام وثائقية من بينها: "رقاص المنقالة" (2000)، إلى جانب ثلاثة أفلام وثائقية عن العادات والتقاليد المشتركة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وخاصة بين شمال تونس وجنوب إيطاليا، كما أنجز "عرائس السكر بنابل" (2004)، و"المنطاد" (2006)، و"القيروان" (2007) و"صائفة في سيدي بوزكري"، و"أكباش فداء" (2014)، وأخرج مسلسل "انكسار الصمت" وهو من إنتاج تلفزيون عُمان.

المساهمون