بيار كومبيسكو.. خارج سيرك الحياة المظلم

02 يوليو 2017
(كومبيسكو، تصوير: برتراند ريندوف بيتروف)
+ الخط -

مُخلّفاً وراءه منجزاً روائياً فاق عشر روايات، وعدة دراسات تاريخية، وكمّاً هائلاً من المقالات والتحقيقات، وثلاث جوائز أدبية رفيعة، رحل عن عالمنا الكاتب والروائي الفرنسي بيار كومبيسكو ليلة الثلاثاء الماضي في شقته الباريسية، عن 77 عاماً.

دأب كومبيسكو على الكتابة بشغف حول "الكوميديا الإنسانية"، في بُعدها التراجيدي الخلاّق والمرعب، والتي كان يسميها "سيرك الحياة"، واهتم بشكل خاص بالشخصيات المارقة والقتلة والمجرمين والعاهرات. ما كان يهمّه في الكتابة بالدرجة الأولى، هو العثور على ثغرة ما في سيرة كل شخصية. ثغرة مهما كانت صغيرة أو حتى غير مرئية، ولكنها تكون كافية كي تتسلل منها الخطيئة القاتلة، و"الذنب المروّع" الذي يضيء العتمة من زوايا غير متوقعة. كان "أمير" ميكيافللي مثله الأعلى، والرقص الكلاسيكي عشق حياته.

ولد الكاتب عام 1940 في مدينة ليموج. وكان والده رجل أعمال دائم الترحال، وأباً قاسياً اعترف كومبيسكو مرة في إحدى حواراته بأنه كان على جفاء معه طيلة حياته. أما والدته فمعلّمة شغوفة بالفن والموسيقى، وابنة أحد أصدقاء الكاتب المسرحي الشهير ساشا غيتري. عاش قسماً مهماً من طفولته في البرازيل، التي لجأ إليها والداه هرباً من الاحتلال النازي. درس القانون في السوربون ثم الأدب المقارن في ميونيخ.

وكانت روايته الأولى "فُرسان الغروب" قد صدرت عام 1975. وبعد انقطاع دام أحد عشر عاماً، أصدر "جنازة السردين"، وهي رواية عجائبية تغوص في الجوانب الخفية والمظلمة، لسيرة ميكافيللي، ونال عنها في نفس العام جائزة "مديسيس" للرواية.

توالت روايات كومبيسكو، غير أنها ظلّت مسكونة بنفس الهوس تجاه الشخصيات التاريخية، ذات السّيَر العاصفة والفضائحية مثل نيرون، وكاليغولا، وجيل دو راي الفارس المثير للجدل بطل روايته الأخيرة الصادرة عام 2009 بعنوان "من أجل مُتعتي وبهجتي بالجسد"، متناولاً فيها سيرة متخيلة لهذه الشخصية الغريبة الشهيرة بقساوتها وفظاعة جرائمها.

غير أن الرواية التي رسّخت كومبيسكو ككاتب لامع في المشهد الأدبي الفرنسي، ومنحته الشهرة واستحسان النقاد والجمهور في آن، كانت "بنات المِحن" الصادرة عام 1991، والتي نال بفضلها جائزة "غونكور".

وتدور عوالمها في حانة تديرها مدام مود بولافيه، وهي تونسية من أصل يهودي، وتخالطها شخصيات غريبة الأطوار يشكّلون عالم باريس السُفلي المترع بالإجرام والفجور. والرواية مكتوبة بلغة شعرية كثيفة، تمزج بين الحسي والميتافيزيقي بطريقة تميّز بها كومبيسكو وحده من بين أبناء جيله وصارت نغمته الشخصية.

إلى جانب نشاطه الأدبي، كان الروائي الفرنسي مولعاً بفنون الرقص والباليه والأوبرا، ودأب على كتابة زاوية أسبوعية باسم مستعار لمدة عقدين في صحيفة "لوكانار أوشينيه" الساخرة.

عانى كومبيسكو طويلاً قبل أن يسلم الروح بسبب تعقيدات طبية، نتجت عن حادث سقوط مريع في سلالم بيته، ما حرمه في السنوات الأخيرة من متعة الكتابة والقراءة. وتحوّل الرجل البشوش والمتحمّس للحياة ومفاتنها في الآونة الأخيرة إلى شبح كئيب يتعجل خاتمته، كما شهد على ذلك بعض أصدقائه المقرّبين. وهي خاتمة تتناقض مع نهايات برع كومبيسكو في تصويرها في رواياته، مثل ما فعل في "بنات المِحن" بلسان المهرّج الإيطالي بانزوني، الذي خاطب قتلته من "القمصان السود" الفاشيين قبل أن تنهال عليه الخناجر قائلاً:

"عشت حياتي بقوة مضاعفة عشر مرات، بالمقارنة مع جميع الأحياء. وسأموت بقوة، عشر مرات مضاعفة. عشقت الحياة، لكن وضع حد للحياة، كان أيضاً مصدر فرحة كبرى، مثل فرحةِ قَطع الصمت بالضحك. أنا لا أعرف الغُبن، ولا أعرف الحبور، لا اللذة ولا الألم، ولكن أستطيع أن أبكي وأبتهج، وأضحك وأئنّ في ذات الوقت وبكثافة. أنا هو السيرك".

دلالات
المساهمون