في ختام محاضرته "العقل والدين في القرن العشرين: نموذج الشيخ مصطفى صبري"، والتي عُقدت مؤخراً في "الجامعة الأميركية" وسط القاهرة، ضمن مبادرة "بالعربي فلسفة"، طرح الباحث محمد سامي العديد من الأسئلة العالقة، تاركاً إياها لتفكير جمهور الحاضرين وربما لتعليقاتهم إذا رغبوا.
أحد هذه الأسئلة كان نصه: هل يمكن أن تكون الحداثة دوغما؟ وباعتبار المقابلة السالفة في عنوان محاضرته - وهي المقابلة التي يرفضها الشيخ مصطفى صبري (1869-1954) الذي تناول الباحث سيرة أفكاره - حيث تُمنح الحداثة طرف العقل، كان الدين محمولاً في فكر الشيخ صبري على أطروحات علم الكلام؛ المعني بالبحث العقلي المجرّد للعقائد، وبها قدّم تشكيكاته بأطروحات الفلسفة الوضعية والعلم التجريبي، عبر كتابه الضخم ذي الأجزاء الأربعة "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين".
تقول سيرة الشيخ صبري إنه ولد في مدينة توقاد الواقعة في قلب الأناضول، وحفظ القرآن وتعلّم العلوم الشرعية، وتدرّج في تعليمه وتحصيلاته إلى أن شغل منصب آخر شيخ للإسلام في الدولة العثمانية.
بانهيار الخلافة هاجر إلى مصر أوائل الثلاثينيات، حيث شارك وقتها في الجدل الدائر حول قضايا التحديث والعصرنة التي ضجت بها مصر حينذاك. رأى الرجل - على ما يقول المحاضر - انبهار النخب الفكرية المصرية بالنموذج الغربي التحديثي، وعندها اشتبك فكرياً مع معاصريه أمثال الإمام محمد عبده، والكاتب محمد فريد وجدي رئيس تحرير مجلة "الأزهر"، وشيخ الأزهر مصطفى المراغي، والكاتب أحمد أمين، وغيرهم ممن سماهم هو بالعصريين، وكتب بسبب من ذلك سِفره الضخم السالف، لا ليردّ على خصومه المصريين فقط - إذ يعتبرهم مقلّدين - إنما ليدحض بالأساس منطلقاتهم الفكرية، بما يستعيرونه من فلسفات كانط وكونت التجريبية، متخذاً من علم الكلام الإسلامي ذخيرته الفكرية، لبحث بعض القضايا الأساسية كالغيبيّات وإثبات وجود خالق بالأدلة العقلية التجريدية المحضة، فيما يُعدّ حُجَجه للانغماس في جدل الشرق والغرب الحاصل ساعتها إبان مشاريع النهوض الوطني والبحث عن الاستقلال.
المثير هنا، أن خصوم الشيخ صبري ممن عُدّوا دليلاً على سريان عقلانية مجدّدة في قلب الدين الإسلامي، كالإمام محمد عبده وغيره، اعتبرهم الرجل أرباب عقلانية ساذجة، "ذلك أنه نتيجة لافتتانهم بالنموذج الغربي في التفكير، فإنهم ارتكنوا إلى الدليل التجريبي الحسي، وطرحوا عنهم بالمقابل الدليل العقلي المجرّد"، اعتماداً على فلسفة كونت الوضعية حيث "كل معقول لا يؤيّده محسوس لا يُعتدّ به"، ومن ثم فإنهم أنكروا كثيراً من الأمور كالمعجزات وخوارق العادات والغيب، أو "لجأوا لإعادة تأويل آيات القرآن بغير حق"، في إنكار لقطعية دلالة النصوص تماشياً مع العقلانية التجريبية.
تجلّى ذلك مثلاً - كما أشار المحاضر - في كلام الشيخ رشيد رضا حول اعتبار "المعجزات شبهات وليست حُججاً"، أو ما كتبه أحمد أمين من أن "علماء التوحيد لم ينجحوا في مهمتهم"، لكن الشيخ صبري كان يرى بخلاف ذلك أنه "لولا التقهقر أمام المستعمر لما تسنّى مزاحمة الوضعية لعلم الكلام".
لكن العقلانية التي يقدّمها صبري في طرح أمور العقيدة، على تموضعها ما بين سلفيّة التقليد الجامد في خطاب علماء الدين الذين هاجمهم محمد عبده، وبين عقلانية تأويلية في خطاب عبده ذاته وباقي من هاجمهم الشيخ العثماني، لا تبدو تلك العقلانية مكتفية بذاتها أو تنتصر لصفاء العقل وحده، ولا يمكن فصلها كذلك سياسياً عن لحظة انهيار الخلافة العثمانية.
إذ تتوارى تلك العقلانية حال هجوم الشيخ صبري على كتاب الشيخ علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم"، باسطاً حججاً تقليدية بشأن أن "القانون الوضعي محكوم بواضعه، بينما التشريع الإلهي حاكم غير محكوم"، وفي هذا أيضاً فإنه هاجم فهم خصومه للاجتهاد والتجديد، حتى إنه كتب يقول "هؤلاء المجدّدون من علماء الدين (يقصد الشيخ محمد عبده ومن معه) زعزعوا الأزهر عن جموده على الدين، فقرّبوا الأزهريين إلى اللادينيين خطواتٍ، ولم يقرّبوا اللادينيين إلى الدين خطوة".
وكتب كذلك في كتابه سالف الذكر "عفا الله عن الشيخ محمد عبده: لمّا أراد النهوض بالأزهر، حارب علماءه القدماء، وفضّ المسلمين (وخصّيصاً الشباب والمتعلمين) من حولهم، حاربهم حتى أماتهم، أو على الأقل أنساهم نسيان الموتى".
لم يوفّر الشيخ صبري هجومه على أحد، ونلمح من كتاباته حسّاً استعلائياً وتقليلاً من خصومه، فقد شكك في فهم معاصريه - بحسب المحاضر - لأنهم "أخطأوا في فهم ديكارت لأنه لا يشك، وأخطأوا في فهم كانط لأنهم يؤمنون بحقائق، والسبب: صعوبة كتب الفلسفة وعدم الاهتمام بقتل المسائل بحثاً".
والحال كذلك، فإن عقلانية صبري التي تظهر في الوسط من الطرحين التقليدي والتأويلي، ليست عقلانية وسطية بالمعنى الذي تتيحه مقولة "خير الأمور أوسطها"، إنما هي عقلانية يمكن وصفها "بالسلفية"؛ عقلانية تستخدم البراهين العقلية التي يمنحها علم الكلام لمحاربة التجديد العقلي ذاته، لذا أمام كل هذا الارتياب من كل ما أنتجته الحداثة في أطروحات الشيخ صبري، وبالعودة لسؤال ختام المحاضرة فإنه يمكن قلبه بكثير من الحذر على النحو الآتي: هل يمكن أن يتحول العقل المجرد ذاته إلى دوغما؟