غاودي وبرشلونة: هندسة الحداثة وتطويبها

29 نوفمبر 2016
("ساغرادا فاميليا" وسط برشلونة، تصوير: ديفيد راموس)
+ الخط -

بعد مرور تسعين عاماً على رحيله، ما تزال تسمع بأذنيك أنّ "غاودي هو برشلونة، وبرشلونة هي غاودي"، لا بين السيّاح فقط، بل من النخبة الثقافية أيضاً.. ولا مبالغة بالقول إنّ ملايين الزوّار يزورون أعماله سنوياً، فالناظر في يوم صيفي إلى الطوابير أمام "ساغرادا فاميليا" يُذهل من طولها وصبر الناس على الانتظار بالساعات تحت الشمس.

تردّدت في الكتابة عن المعماري الكتالاني أنتوني غاودي (1852- 1826)، لعدّة أسباب: أحدها أنه أسطورة. وأمثالي لا يحبّون الكتابة عن الأساطير. فمصيرُ كتابةٍ كهذه سيكون كمّيّاً على الأرجح، ويفتقر إلى المقدرة على اجتراح زاوية نظر ذاتية، يمكن أن تضيء نقطة هنا أو أخرى هناك. وبالخصوص حين تتخيّل ذلك الرتل من الكتاب المتخصّصين في غاودي، فهل يمكن أن يتركوا لمن يجيء بعدهم ـ لا سيّما القادم من ثقافة مختلفة. أيّما شيء؟

ولأنّ غاودي في الواقع والتجريد معاً هو فنان عصيّ على التصنيف والتقييد، ولا تستطيع حصره في زاوية كأن تقول مهندس غير مسبوق، أو نحات، أو مُعلّم بناء، أو فاتح سِكَك؟ فهو هذه كلها مجتمعة، وكل واحد منها على حدة.

لئن كان الرجل مع بيكاسّو هما مَن مهّدا الطريق للحداثة الكتلانية (كما يتفق الجميع هنا)، فثمة إجماع مواز على أن عمل غاودي يفوق زميله بما يؤهّله ليكون هو المؤسس الحقيقي والأصيل لحداثة كتالونيا في الربع الأول من القرن العشرين (ذلك أن بيكاسّو ـ كيلا ننسى ـ تكوّن وتأسّس في برشلونة، حين جاءها سنة 1895، فتىً في إقامة امتدت عشر سنوات).

ثم .. حين اكتفيت بكتابة انطباعاتي عنه، أخذت كل ما تقدّم بعين الاعتبار، ناهيك عن مداومة الزيارة والتأمّل في غالب أعماله، مع القراءة عن فنّه كلما أمكن.

من حسن الحظ أن أعماله ماثلة ومتاحة لكل مهتمّ في برشلونة. فإذا كان تأمُّل بعضها من الداخل يحتاج إلى تذكرة دخول (زهيدة بكل الأحوال)، فلا أقل من هذا الصنيع البصري من الخارج. والحق أنني تأمّلت غالب أعماله من الخارج فقط، باستثناء جناحه في "كاتدرائية مايوركا"، و"حديقة غويل"، وتحفته الكبرى: "كاتدرائية العائلة المقدسة".

فما الذي فعله غاودي بالضبط؟ ولمَ هو بإجماع غالبية المؤرخين والنقّاد، ناهيك عن الفنانين: "نسيجُ وحدِهِ"، في المعمار الإسباني على الخصوص، والأوروبي بعامة وربما العالم؟ ولمَ حاز بجدارة وأصالة لقبَ "مؤسس الحداثة في الفن الكتلاني"، والرائد الذي فتح سبيلَها ومهّده ـ وهما مهمّتان يندر اجتماعُهما في فرد واحد تاريخياً؟

ولد غاودي (1852-1926) في قرية "روِس" جنوب مقاطعة "تارّاغونا"، ومنذ طفولته كان مفتوناً بالأعمال اليدوية الحرفية التي مارَسَها مع أبيه، وشغوفاً بتأمل واستخلاص الدروس من الطبيعة. وحين التحق بمدرسة الهندسة المعمارية كان مسكوناً بالجانب التطبيقي من هذا العلم أكثر من الجانب النظري.

ومنذ أول عمل فني مشترك، أنجزه في شبابه الباكر، وهو "شلالات المياه في حديقة سيوتايّا"، تبدّى إرهاصُ عبقريته. وأنجز عام 1886 "بيت سيتجِس" في برشلونة، مستخدماً الرخام والسيراميك الخالصين، فلفتَ بهذا الصنيع نظرَ المتموّل الكتلاني أوزوبي غويل، الذي سخّر له جميع إمكاناته، فتمخّضت علاقتهما الغريبة في النهاية عن ثلاثة أحداث فنية ارتبطت باسم العائلة: "مباني غويل"، "قصر غويل"، و"حديقة غويل" الكائنة في منطقة منجويك التي انتهى منها في 1914.

بعد ذلك كرّت السبحة، فأنجز غاودي عدداً من الأعمال، نورد منها البرشلونية فقط؛ أوّلها "مدرسة تيريزا" وتمثّلت فرادة عمله فيها باجتراحه طريقة جديدة في توزيع الضوء بأسلوب مبتكَر وأخّاذ، ثم نفّذ "بيت كالْبِيت" المصمّم على الطراز الباروكي، ثمّ "بيلس غارد"؛ وهذه الأعمال الثلاثة تمزج ما بين الفن والطبيعة وتُعتبر من علاماته الراسخة؛ وكذلك هو "بيت فيسنس" و"بيت باتلّو" و"بيت ميلا"، وهذا الأخير كان آخر عمل أتمّه قبل أن يقبل العمل في ساغرادا فاميليا ـ بعد انسحاب مهندسها الأول ـ فقلَبَ غاودي تصاميمه رأساً على عقب.

هذا العمل الفني الأكبر والأعظم - ساغرادا فاميليا - (ما يزال قيد الإنجاز ولن ينتهي العمل فيه قبل عام 2026)، هو تحفة برشلونة بحق، ويستحق أن يغدو أبرز معلْم في المدينة قاطبة. حيث أنجز غاودي الأقسام الداخلية منه ("الكريبتا" و"الأبس") مع الواجهة الخارجية للكاتدرائية.

وقبل ذلك صمّم أبراجها الثمانية عشر، قبل أن يدهسه ترام المدينة - فقد كان خفيف السمع ولم يسمع صفارة التنبيه - وهو هائم على وجهه، مهمَل الثياب، من دون بطاقة تعريف، فيموت، ويُوشك عمال البلدية على دفنه في مدافن المشرّدين، إلى أن يتعرّفه كاهنٌ، فتشيّعه، بعد يومين من وفاته، جماهير برشلونة التي خرجت عن بكرة أبيها في 12 حزيران/يونيو 1926.

اشتغل غاودي في بداياته على تقنية الكولاج ـ التجميع ـ "حديقة غويل" كأبرز مثال. كما اشتغل على تمويج الكتلة: واجهة "مبنى بيدريرا" كنموذج، وسواه مما يبدو كما لو كان مضغوطاً أو غارقاً في الماء وأنت تنظر إليه من زاوية مكسورة.

لكن خصيصة غاودي الفارقة أنه أول من أدخل مفردات الطبيعة العضوية (زواحف، أزهار، طوب، فسيفساء) إلى صلب مختبره الفني، ونُفّذَت رؤيته من قبَل فريق النحاتين والحرفيين المرافق له بكل دقّة ورهافة.

المفارقة الطريفة أن الرجل كان متديّناً شديد الحرص على أداء الطقوس اليومية، وكان منعزلاً ومتقشّفاً بطبيعته التي لم تغيّرها الشهرة آنَ أدركته وهو شاب، فإذا به اليوم يصير قبلة لسياح الكيتش بكاميراتهم ونمطيتهم ومحدودية فهمهم.

لقد أصبح غاودي جزءاً لا يستهان به من بيت المال الإسباني! تساورني الخاطرةُ فأبتسم محرجاً وأنا أتأمّل قبره المنخفض برخامِه الأسود المسطّح أسفلَ الكاتدرائية. مآلٌ لا يتناسب مع فاتح درب الحداثة الأول معماريّاً على مستوى القارّة (لن تجد معمارياً أوروبياً كان يضاهيه آنذاك). وقبل هذا وبعده مآل لا يستقيم مع فنان بأخلاق صوفي.

أخيراً، لقد وضَعَ كتالونيا في قلب العالم. ومن المحلي، شأن أي فنان حقيقي، أوصلها إلى الكوني. شاعر الحجر، ومُلهم العشرات من شعراء الكلمة.. كانت فرادته في مبانيه الأشبه بخيال غنائي منفلت. فلطالما أحسست أنها ليست مجرد مبانٍ وإنما هي منحوتات. لقد طوّع الكتلة الصلدة الصماء فارضاً عليها خيالَه الجامح، فموّجها وشعْرَنَها، مبتعداً قدر الإمكان عن الخط المستقيم والزوايا القائمة (استلهمته زها حديد، ههنا، بلا ريب).

تبقى نقطة أخيرة يُستحسَن ألا تغيب عن ذهن المتابع: حيث إن غاودي تأثّر بالفن الأفريقي الطوطمي (المالي تحديداً)، وثمة غير ناقد أشار إلى هذه النقطة، التي لا تزال محّل جدل حتى اللحظة.

المساهمون